إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
قد يبدو غريبا للبعض أن يقوم رئيس تايواني، وإن كان رئيسا سابقا، بزيارة الى الصين التي تطالب بالسيادة على بلاده وتهدد بضمها عاجلا او آجلا. لكن هذا ما حدث بالفعل في شهر أبريل الفائت، حينما قام “ما ينغ جيو” (الرئيس الثاني عشر لتايوان ما بين عامي 2007 و 2016) بزيارة بكين وعقد اجتماعا مطولا مع الرئيس الصيني شي جينبينغ، علما بأن الرجلين اجتمعا من قبل في سنغافورة في نوفمبر 2015، في لقاء تاريخي كان هو الأول من نوعه منذ استيلاء الشيوعيين على السلطة في البر الصيني و انفصال تايوان سنة 1949.
أما الغريب حقا، فهو أن يقوم“ما ينغ جيو” بنفسه بهذه الخطوة، وهو من كبار رموز حزب الكومينتانغ، الخصم اللدود للحزب الشيوعي الحاكم في بكين، وأحد مساعدي الماريشال تشيانغ كاي شيك مؤسس تايوان وقائدها من 1949 إلى حين وفاته سنة 1975، وقبل ذلك رئيس الصين بأسرها من عام 1928 وحتى 1949.
ويزول الإستغراب حينما نعلم أن تغير الظروف الجيوسياسية و الهزائم الانتخابية المتتالية لحزب الكومنتانغ، الذي يعد اليوم ثاني أكبر أحزاب تايوان بعد الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم، أملت على قادة الكومينتانغ التقرب من بكين باتخاذ مواقف سياسية أقل حدة ضدها لجهة إدعاءات الأخيرة في السيادة على تايوان. ومثل هذه المواقف المضادة لسياسات الحزب الحاكم في تايبيه لها أنصار داخل تايوان من أولئك الذين يعارضون بالتأكيد ضم بلادهم قسرا إلى الصين، لكنهم في الوقت نفسه يعارضون التحرش ببكين خوفا من حرب غير متكافئة تعصف بكل ما حققوه من تقدم ونهضة خلال السنوات الخمس والسبعين الماضية.
ومما لاشك فيه أن برغماتية القيادة الصينية دفعتها إلى نسيان الماضي وتأييد النهج الجديد لحزب الكومينتانغ، بل ودعم مرشحي الأخير في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تايوان، أملا في اسقاط أعداء بكين من مؤيدي الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يتبنى فكرة إعلان استقلال تايوان من جانب واحد.
ومن هنا يفهم سر الحفاوة التي قوبل بها “ما ينغ جيو” في بكين، لكن دون أدنى إشارة إلى أنه رئيس سابق لتايوان، والأكتفاء باسمه مجردا من أي لقب. ومن هنا أيضا يفهم سر الكلمات الودية التي تبادلها الضيف مع مضيفه شي جينبينغ. حيث قال الأول ما مفاده أن الأمة الصينية لا تستطيع تحمل اندلاع حرب في مضيق تايوان، وأن على قادة الجانبين التصرف بحكمة للحفاظ على السلام والاستقرار من أجل مواصلة التنمية. وهذا الكلام يشبه ما قاله في مقابلة متلفزة سابقة في يناير 2024 من أن أفضل نهج هو التواصل والتعاون مع الصين لأن تايوان لا يمكنها الانتصار أبدا في أي حرب مع الصين، وأنه يتعين على تايوان تجنب زيادة نفقاتها الدفاعية منعا لإستفزاز الصين.
وقد رد عليه مضيفه قائلا: “لا يوجد شيء يستحيل على الناس في جانبي مضيق تايوان مناقشته، ولا توجد قوة يمكنها أن تفصل بينهم“، مضيفا ما مفاده أنه طالما البلاد غير مقسمة، وكلا جانبي مضيق تايوان صينيان وأسرة واحدة، فإنه بالإمكان الجلوس معا والتواصل مع بعضنا البعض من أجل التعايش السلمي وتعزيز العلاقات البينية بصورة سلمية وفقا لتوافق عام 1992.
وتوافق 1992 تم التوصل إليه في تلك السنة في تايبيه خلال اجتماع ضم ممثلين شبه رسميين من الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومنتانغ، وكان مضمونه تأكيد الطرفين أن كلا جانبي مضيق تايوان ينتميان إلى “صين واحدة” تمثلها جمهورية الصين الشعبية فقط، وهذا ما تتمسك به بكين وترفعه في وجه التايوانيين من دعاة الانفصال، وهو أيضا ما رفض الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايبيه الاعتراف به.
جملة القول أن “ما ينغ جيو” قام، دون أن يتمتع بأي صفة رسمية، ودون أن يخوله أحد، بخطوة أراد منها تحقيق أمرين أولهما: تخفيف حدة التوتر في مضيق تايوان التي تفاقمت في الأشهر الأخيرة، على خلفية الدعم الأمريكي العسكري لتايوان واختراق طائرات سلاح الجو الصيني للأجواء التايوانية مرارا، وثانيهما تأكيد دور حزب الكومنتانغ في تقرير مصير الدولة التي بناها مؤسس الحزب والتودد لطائفة من التايوانيين من دعاة السلام والاستقرار وتجنب استفزاز الصين. وجدير بالذكر أن مساعي الرجل السلمية سوف تتواصل من خلال نائب رئيس حزب الكومنتانغ “أندرو هسيا” الذي سيسافر إلى واشنطن قريبا للإجتماع هناك بقادة مراكز الأبحاث الاستراتيجية والمشرعين الأمريكيين.
غير أن ردود الأفعال على مساعيه وخطواته في الداخل التايواني لم تكن مشجعة كثيرا. إذ لوحظ أن زيارته لبكين أثارت جدلا داخل أروقة الكومنتانغ ما بين مؤيد ورافض. بدليل أن رئيس الكومنتانغ “إريك تشو” فضل التواري عن الانظار باخذ إجازة عائلية تفاديا للتعليق على الحدث. والمعروف أن الأخير كانت له في السابق مواقف مؤيدة للتقارب مع قادة الصين الشيوعيين بدليل أنه وقف شخصيا وراء إغلاق احد فروع اللجنة الوطنية للمحاربين القدامى ضد الشيوعيين، لكنه بدا في الفترة الأخيرة مُحبذا للإقتراب من الولايات المتحدة والابتعاد عن الصين.
ومن ردود الأفعال ما جاء على لسان اللواء متقاعد “يو تسونغ تشي” الذي شغل سابقا منصب عميد كلية “فو هسينغ كانغ” بجامعة الدفاع الوطني في “تايبيه”، الذي وصف “ما ينغ جيو” بالأحمق الذي تستخدمه بكين للدعوة إلى الوحدة وتقويض علاقة تايوان مع طوكيو وواشنطن، وذلك من من خلال تذكير بكين للناس بحرب المقاومة التي قادها الكومنتانغ ضد اليابان في الفترة من 1937 إلى 1945. هذا ناهيك عما ورد في الصحافة التايوانية من تعليقات سلبية أقلها أن رئيس البلاد السابق ارتكب خطأ فاحشا بذهابه إلى الصين واجتماعه بزعيمها شي جينبينغ، وأن رحلته تلك أودت بما تبقى من شعبية الكومناتغ.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي