إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
الخيبة، تعريفاً، هي عدم قدرة شخص على تحقيق رغبته. لكن الخيبة الفعلية تحل عليك عندما تتوقع تحقيق رغبتك لكنك تفشل في ذلك. “مصدر كلمة خابَ، هو خيبة، ونقول خيبة الأمل اي عدم تحقيق ماكان يُرْجى.”
ماذا عن الخيبات على المستوى الوطني: خيبات امل معظم الشعب اللبناني في بناء دولة تحفظ له أمنه تجاه الخارج، وفي الداخل في إطار من السلم الأهلي، وتقدم له الخدمات العامة الاساسية، من تعليم وصحة ونقل وكهرباء ومياه، في سياق سياسات اقتصادية- اجتماعية تطمح لإرساء اسس العدالة الإجتماعية.
“حينما ينهمر عليك عالم من الخيبات، تنتقل إما إلى الفلسفة أو الى السخرية.” لا أعرف متى وفي أي ظرف قالها تشارلي تشابلن. لكن تعبير “عالم من الخيبات”، يفترض كماً هائلاً من الخيبات، مما يجعلنا نتماهى مع ما قاله شابلن، نحن اللبنانيين الذين “انهمرت علينا الخيبات” على مر السنين، رغم محاولات الشعب المتكررة لتغيير أوضاعه نحو الأفضل.
لكن هذه الخيبات المتراكمة، لا سيما منذ اندلاع الحرب في لبنان سنة ١٩٧٥، تحوّلت الى ما يشبه اليأس المطلق من تحقيق رغبات اللبنانيين. فقد زاد الامر انسداداً، زج محور “الممانعة” لبنان في صراع المحاور الإقليمية والدولية، وأخيراً ربط مصيره بالحرب على غزة، بعد ان سبق ورُبط امنه الإقليمي بتحرير مزارع شبعا، التي -للمفارقة-، لا يعترف لنا بها النظام السوري نفسه، وهو احد أطراف محور “الممانعة”، مما يضعنا في دوّامة لا مخرج منها، ويشرّع المقاومة الى الأبد، مع ما يستتبع ذلك من حالة نفسية إن لم تكن فعلية، من الحرب الدائمة.
شابلن اختار السخرية في مواجهة انهمار عالم الخيبات على رأسه؛ فسخر من الانظمة والصناعة والزعماء والأغنياء والعادات، اي من كل من وما يتسبب بخيبات للبشر.
فأي فلسفة وأي سخرية أمام هذا الانسداد الوطني، الذي ينعكس على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
كثيرون من الشعب اللبناني، كتاباً وفنانين ومواطنين عاديين، لجأوا إلى السخرية من الاوضاع ومن الزعماء، فكانت لهم السلطات السياسية والقضائية والامنية بالمرصاد، عبر ملاحقتهم قضائياً. لكن النزعة نحو السخرية لا زالت تفعل فعلها رغم المضايقات والتهديدات، حتى انها طغت على الفلسفة، اي على الكلام الذي يحاول إيجاد مقاربات وخيارات فكرية تدلنا الى طريق الخروج من مستنقع الخيبات الذي نعيش فيه. وهذا ما يريح، في نهاية الامر، السلطات نفسها التي تثأر من السخرية، لا خوفاً من تأثيرها في الاوضاع، بل حفاظاً على ما تبقى لها من صورة إيجابية أمام نفسها وأمام اتباعها، هي الفاشلة والخاضعة أيضا للإعتبارات الاقليمية والدولية ولسلطة السلاح.
افهم تماما انكفاء الافكار حول سبل تغيير الواقع، المتفاقم دوما وأبدا، فقد عاينتُ بالتفصيل “متاهات التغيير في زمن الممانعة” في كتابي الصادر منذ حوالي السنة بنفس العنوان.
بت أميل الى الاعتقاد الى ان “الوجود” كما نعايشه اليوم هو أقرب إلى العالم كما تراه الفلسفة العبثية.
فالعبث بالنسبة للفلسفة العبثية، هو “التناقض بين البحث عن المعنى، ورغبة الإنسان العميقة في الفهم (حاجته العميقة لإعطاء معنى لأفعاله وللكون)، والطابع غير العقلاني للعالم، حيث أنه فارغ من المعنى والتفسيرات،” بحيث “يولد العبث من هذه المواجهة بين الدعوة الإنسانية وصمت العالم غير المعقول”.
اعرف تماما أن الظروف التي نشأت فيها الفلسفة العبثية تختلف عن الظروف التي نعانيها؛ وإن كانت هي أيضا راكمت تأثيرات الحربين العالميتين في أوروبا.
مع ذلك باتت ظروفنا أقرب بتطوراتها إلى اللاعقلانية التي يتصف بها العالم بحسب الفلسفة العبثية. خذوا مثلا الدوران في حلقة مفرغة في قضية انفجار المرفأ وفي مسألة انتخاب رئيس للجمهورية وفي الحرب مع اسرائيل في الجنوب ربطا بالحرب في غزة. فمن اين نأتي بالعقلانية لتفسير ما يجري، ومن تكرار المكرر للمرة الالف؟ هل من الدستور والقانون، ام من حد ادنى من المصلحة العامة، ام من المنطق البسيط الذي يحتّم الحفاظ على حد ادنى من الشروط لبقاء البلاد وشعبها على قيد الحياة؟
لا شك ان ما يجري له تفسيراته، على عكس العالم الفاقد لأي تفسيرات وفق ما تقول الفلسفة العبثية. لكن التفسيرات عندنا لامست هي أيضا اللاعقلانية، كما تفسيرات العالم العبثي. وربما كانت هذه اللاعقلانية متأتية من جهة، من رجحان منطق السلاح الذي بات يهدف إلى حماية نفسه بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى؛ ومن جهة ثانية هي متأتية من المنطق الخارجي الغريب عن الاعتبارات المحلية. وفي المنطقين لاعقلانية من وجهة نظر آليات العمل على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الوطنية.
هذه اللاعقلانية تلفنا أيضا في تفاعلاتها على حدودنا الشمالية والجنوبية، في سوريا وفي فلسطين. لا سيما هذه اللاعقلانية التي طبعت حرب اسرائيل على عزة ومعها الصمت المؤسساتي الدولي من فعل الابادة بحق الشعب الفلسطيني.
في مواجهة عبثية العالم، طرح الفيلسوف العبثي، البير كامو، ثلاث خيارات: الانتحار، الدين، والانتفاض في محاولة لإعطاء معنى لحياة الإنسان.
يبدو أن الخيار الديني هو الأكثر جاذبية اليوم في لبنان، فيما الانتحار والانتفاض يأتيان في لمرتبة الثانية او الثالثة، مع مخافة أن يتقدم الانتحار على الانتفاض، بعد أن إنكفأت الحالة الانتفاضية التي نافست الخيار الديني بين سنتي ٢٠١٩ و٢٠٢٠.
خياري الشخصي لا زال الانتفاض، ولو انه ينحدر تدريجياً من المستوى السياسي إلى المستويات الأدنى، النقابية والاجتماعية، الا إن سلك شعبنا احد الطريقين او الإثنين معاً اللذين حددتهما في مقالي في صحيفة “النهار” بعنوان “طريقان للخروج من بين جدران حزب الله الاربعة”.
الجدران الأربعة هي: قمع الانتفاضة ولجمها، تعطيل التحقيق بانفجار المرفأ، تعطيل إنتخاب رئيس للجمهورية، والدخول في حرب مع اسرائيل وربط مصير لبنان بالحرب في غزة.
اما الطريقان فهما: إما قيام معارضة وطنية تطالب بحصر السلاح بيد الدولة وبإستراتيجية دفاعية للدولة يكون الحزب جزءاً منها، وإما بسلوك طريق الفدرالية. الطرق الأخرى تبدو لي للأسف عبثية.
النهار
الصديق غسان صليبي ليس الوحيد الذي “يحلم” بما يسميه “استراتيجية دفاعية يكون الحزب جزءاً منها”. (بالمناسبة، لماذا لا يقول، هو وغيره، “استراتيجية دفاعية يكون حزب الكتائب أو الحزب التقدمي الإشتراكي جزءاً منها”؟ هل لأن الأحزاب المذكورة ليست مسلّحة على نحو يهدد سيادة الدولة، لكي تستحق “مكافأة” أن تكون جزءاً من “الإستراتيجية الدفاعية المزعومة؟ (هل صحيح، بالمناسبة، آن لبنان يمكن أن يخترع “استراتيجية دفاعية” تحميه أكثر من جنود 15 دولة موجودين على حدوده مع إسرائيل بقرار من أعلى شرعية دولية؟) بغض النظر عن ذلك، هل “يلاحظ” غسان وغيره أن “الحزب” ليس مجرّد “حزب مسلّّح تابع لدولة أجنبية”، بل هو أيضاً “مافيا… قراءة المزيد ..