كنت مازحاً أسمّيه «المواطن اللبنانيّ الأوّل»، مستعيراً اللقب الذي أُطلق على شكري القوتلي حين وُصف بـ «المواطن العربيّ الأوّل». فبشير هلال، منذ ترك هذا البلد إلى فرنسا، وهو يتهيّأ للعودة إلى لبنان، لا العودة التي كان يعودها كلّ سنتين أو ثلاثاً لبضعة أيّام يقضيها بين أهله، بل تلك المشروطة بعودة لبنان إليه. لقد كان في الأمر شيء من طلب التبادل الذي لم يتحقّق.
فبشير انتابه، منذ 1975، أنّ البلد لم يعد بلده، ولم تفعل السنوات المُرّة اللاحقة إلاّ رفع مستوى اليقين لديه. فحين حزم حقائبه واتّجه غرباً بدا في غربته شيء من النفي الطوعيّ المصحوب بالإصرار على استعادة البلد.
وهو، في انتظاره المديد، كان يستعيض بمتابعة أدقّ التفاصيل اللبنانيّة التي أضاف إليها، منذ نشوب الثورة السوريّة، التفاصيل السوريّة. لم تزحزحه الاجتهادات ولا التسويات والترقيعات التي حاولت دائماً أن تصوّر الأشواك ورداً، فواظب سنة بعد سنة على التمسّك بما يراه صواباً يتحايل عليه كثيرون. وبابتسامة صفراء ظلّ يواجه الاحتيال المتذاكي الذي يصدر من هذا والكذب الصريح الذي يأتي من ذاك. أمّا زاده في مواجهة الذين ظنّوا أنّ التاريخ ولد يوم أمس فكان معرفة مدهشة بتاريخ البلد، المكتوب منه والشفويّ، العالِم المصفّى كما المتداوَل المزغول.
لكنّ استعاضة بشير عن غربته اتّخذت أشكالاً أخرى. فهو بذل وقته الكثير وماله القليل في استضافته أصدقاءه اللبنانيّين حين يحلّون في باريس. وبالفعل صارت زيارة تلك المدينة كأنّها زيارة لبشير هلال المصحوب دوماً بحسن شامي وهاشم معاوية وباقي رفاقه في الضيافة.
وبشير كريم في صداقته، ومترفّع أيضاً، حاول توريط نفسه في مشاريع تجاريّة لا صلة له بها، وفي مشروع مكتبة عاد عليه هو الآخر بالخسارة. بيد أنّ الخسارة كانت تمدّه بأسباب جديدة للسخرية من النفس والتندّر على أحوال الدنيا.
وما أهّل بشير لأن يسخر ويتندّر أنّه عاش حيوات عدّة تفيض عمّا تتيحه سنوات عمره. فهو المحامي الذي لم يمتهن المحاماة إلاّ لفترة قصيرة، والصحافيّ النقابيّ الذي ما لبث أن انقلب كاتباً سياسيّاً (نشرت «الحياة» مقالاته الأخيرة)، والشيوعيّ الذي لم يعد شيوعيّاً.
فهذه الحيوات السخيّة بوعودها كانت بخيلة في تنفيذ تلك الوعود. هكذا شارك بشير في تأسيس «اليسار الديموقراطيّ» وعاد منه خائباً، ثمّ ألهبت الثورة السوريّة مخيّلته إلاّ أنّ وطأة الواقع بدت ثقيلة على المخيّلات.
لكنّ تساقط الآمال لم يفتّ من عضده. فهو ظلّ حاضراً ناضراً في كلّ نشاط لدعم الحرّيّة في سوريّة أو لدعم السيادة في لبنان. وفي هذه الغضون راح الحصاد المُرّ، المتحالف مع كميّات من السجائر يمضغها بشير مضغاً، يرسم له وجهاً أقرب إلى وجوه المسنّين الذين لم يكنْهم.
وبتهذيب درزيّ رفيع، يخالطه ميل مكتوم إلى السخرية، كان يقدّم قناعات راسخة لديه على شكل أسئلة هو منها على شيء من الحيرة. فصلابته العميقة كانت تملك واجهات عدّة تغلب عليها المرونة واللين وتدوير الزوايا، فضلاً عن حماية الصداقات التي تغاير السياسات وانحيازاتها.
هكذا تعدّى أصدقاؤه العالم الواقعيّ. وفي العالم الافتراضيّ، حيث احتلّ رقعة فيسبوكيّـة، كتـب كأنّه يودّع نفسه ويودّعنا: «يكفي أنّني لن أرى زهر اللوز». أمّا الذين يعرفون «المواطن اللبنانـيّ الأوّل» فيحدسون بأنّ ذاك الزهر لم يكن إلاّ لبنان.