إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
وأخيراً.. قال المرشد العام للإخوان المسلمين إن جماعته أوشكت على تحقيق ما كان يهدف إليه مرشدها الأول. يعني بذلك إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية، التي كانت الانتخابات الأخيرة – رغم مُخالفتها للمادة 4/3 من الإعلان الدستوري الصادر في 30/03/2011 – مناسبة بشعور التفاؤل لإظهار ما كان مضمراً، وإعلان ما كان خفياً، ما دام قد تم للإسلاميين التمكن من السلطة.
ومن قبل فقد قال المرشد العام السابق: “طظ” في مصر، ثم أضاف ما معناه إنه لو حكمنا شخص من ماليزيا فلا مانع من ذلك. والتقدير السليم لا يرى أنه أراد بلفظة “طظ”، أن يهين مصر، دولة وتاريخاً وشعباً، لكنه عبر بلفظة دارجة شعبياً، على مفهوم الخلافة الإسلامية التي تجعل من مصر إمارة – لا دولة – ضمن إمارات الخلافة الإسلامية.
ومنذ فترة قليلة قال أحد البارزين من جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفس ما قاله المرشد العام السابق حين استعمل لفظة “طظ”.
وبهذا يكون الإخوان المسلمون قد أعلنوا ما كانوا حريصين على إخفائه، تحسباً للاتهام من الحكومات التي كانت تخالفهم فيما يرون وما يعملون. ما دام الإسلاميون في مصر وفى تونس والمغرب قد قبلوا الأسلوب الديمقراطي في العمل السياسي من خلال الانتخابات، ثم قبل المصريون منهم “وثيقة الأزهر الشريف” الصادرة بتاريخ 8 يناير 2012 فإن مفهوم ذلك أنهم يقبلون الرأي المخالف لما يعتقدون، ويناقشونه أو يردون عليه بالأسلوب الحضاري، وفيه يتقارع الرأي بالرأي، ويكون الخطاب بالتي هي أحسن؛ لأنهم إن فعلوا غير ذلك أسقطوا حصانتهم وأضعفوا مكانتهم، ودللوا على أنهم غير مؤهلين للديمقراطية ولا للحضارة ولا للحكم.
لقد ألغيت الخلافة الإسلامية، والتي كانت قد نُقلت من مصر إلى تركيا ليتوارثها سلاطين آل عثمان، في 3 مارس 1924. وقد أراد بعض ملوك المسلمين – منهم الملك فؤاد ملك مصر وعبد العزيز آل سعود وملك أفغانستان – أن يعيدوها، على تقدير أن إعادتها أمر ضروري لوحدة الإسلام والمسلمين، وأقيمت لهذا الغرض مؤتمرات عدة، انتهت كلها إلى الإخفاق. وتطورت الأحداث بعد ذلك، وتغيرت الظروف بطريقة جذرية، وحصل الدكتور عبد الرزاق السنهوري على دكتوراه ثانية من فرنسا موضوعها “الخلافة” وفيها انتهى إلى أن الخلافة الإسلامية طوال التاريخ كانت خلافة ناقصة، وأن البديل عنها اليوم هو إنشاء هيئة كعصبة الأمم أو الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية. وما دام الأمر كذلك، فكيف يمكن التمسك بنظام معين بان وزال منذ عام 1924 دون اعتبار لما طرأ على العالم من أحداث وما أنشئ فيها من منظمات وأحلاف وهيئات، منها منظمة الدول الإسلامية، وجامعة الدول العربية.
لقد أدركنا أهداف الإسلام السياسي، وأنه بالإلحاح على إنشاء الخلافة الإسلامية يصارع الزمن ويعاند التاريخ ويخاصم الحكومات ويروّع الشعوب ويولج في السياسة، فيعمد إلى تسييس الدين أو تديين السياسة، وهو أمر قد ينجح وقتاً، لكنه لا بد أن ينتهي إلى فشل وخسران. ونشرنا في ذلك أربعة كتب هي “أصول الشريعة” عام 1979، و”الإسلام السياسي” عام 1987، و “الخلافة الإسلامية” عام 1990، و “الإسلام والسياسة”. ولأن هذه الكتب تتصل بموضوع الخلافة وتسييس الدين فإنه يكون من الأفضل عرض موجز لأهمها، ونبدأ بالخلافة الإسلامية:
أ… ورد لفظ خليفة في القرآن مرتين (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) سورة البقرة 2: 30 ، (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) سورة ص 21:38. وواضح أن المعنى بلفظ “خليفة” في الآيتين هو النيابة عن الله سبحانه في عمار الأرض بواسطة الجنس البشرى بأكمله، وفى الحكم بين الناس بالحق فيما يتعلق بداوود.
قبل وفاته، كان النبي (صلعم) مريضاً منذ دست له السم امرأة بعد فتح خيبر، وقد أحس هو بذلك فكان يقول: إن هذه الأكلة “قطعت أبهري”، أي هدّت حيلي وقوتي. لكنه لم يستخلف شخصاً بعده، بتعيين واضح ظاهر لا شبهة فيه ولا غموض. وبعد وفاته، وفى سقيفة بنى ساعده، بويع لأبى بكر الصديق بتولي أمور المسلمين، وهو ما سمي فيما بعد: خلافة النبي. وحرص أبو بكر على أن يحدد وضعه بأن قال إنه خالف النبي وليس خليفته. يقصد بذلك أنه تلي النبي في الزمن (الوقت)، غير أنه لم يخلفه فيما كان للنبي من سلطة روحية وإطلاقات دنيوية. وبعد أبى بكر اختير لولاية أمور المسلمين عمر ابن الخطاب، وقد كان المفهوم أنه خليفة لأبى بكر، فقال إن تسميته خليفة خليفة النبي أمر يطول، ومن ثم فقد فضل أن يطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين. والإمارة هنا لم تكن تعنى السيادة والعظمة كما أتسع لذلك معنى اللفظ فيما بعد، لكنه كان يعنى “ولى الأمر”، وبهذا كان أمير المؤمنين وليا لأمر المؤمنين. بعد عمر ابن الخطاب وُلى أمر المؤمنين عثمان ابن عفان، وإذ كان أموياً فقد قامت ضده معارضة من الهاشميين، بدعوى أنه مال إلى بنى أمية. ولما قُتل نعاه حسان ابن ثابت بأشعار كثيرة كان منها بيت من الشعر ورد فيه أن عثمان كان خليفة الله:
لعلكم أن تروا يوماً بمغبطة.. خليفة الله فيكم كالذي كانا
وندب معاوية ابن سفيان والى الشام نفسه لأخذ ثأر عثمان باعتباره أموياً مثله. ومن ثم قامت معارك بينه وبين على ابن أبى طالب الذي وُلى الأمر بعد مقتل عثمان. وفى هذا الخلاف انشق على علىّ ابن طالب بعض أعوانه، وسموا أنفسهم “الشُراة” بمعنى أنهم يشترون الجنة بالدنيا، وسماهم الآخرون بالخوارج، أي الذين خرجوا على إجماع المؤمنين.
وفى هذا الخلاف، ولأن الخوارج كانوا من الأعراب الذين لا يفهمون مبدأ أن آيات القرآن تفسر على أسباب تنزيلها، فقد فسروها على عموم ألفاظها، واتهموا عليّا بأنه لم يحكم بما أمر الله، حين قبل التحكيم بينه وبين معاوية على من له الحق في ولاية أمر المؤمنين، فكانوا يصيحون في وجهه – كلما دخل المسجد – قائلين “إن الحكم إلا لله” وكان علىّ يرد عليهم قائلاً: قولة حق يُقصد بها باطل. وإذ كانت قد استعملت آية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) منذ بدأ الخلاف الذي نشبت به الفتنة الكبرى، فقد نتج عن هذه الفتنة:
(أولاً) انتقال ولاية أمور المؤمنين إلى البيت الأموي. فبعد مصرع على ابن أبى طالب ومقتل ولديه الحسن (بدس السم له من زوجه) والحسين (في موقعة كربلاء) آل الأمر إلى معاوية ابن سفيان، ثم إلى ابنه يزيد ابن معاوية.
(ثانياً) تحولت الخلافة من خلافة النبي إلى خلافة الله وخلافة المسلمين جميعاً، فصارت إلى مُلك عَضوض.
(ثالثاً) تفسير آيات القرآن على عموم الألفاظ وليس على خصوص أسباب التنزيل. وهو اتجاه أحدث اضطرابا بالغاً في التفسير كأن يقال (ويل للمصلين)، اقتطاعا من الآية: (ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) أو يقال (لا تقربوا الصلاة)، مع عدم إكمال الآية بأن يضاف إلى القول (وأنتم سكارى) حتى يستقيم المعنى.
وهكذا مما أوردناه في مقال سابق، وفصلناه في كتبنا المشار إليها فما أنف.
ب.. نشأت واستقرت الخلافة الأموية بدايةً بمعاوية ابن أبي سفيان ثم عمل على توريثها إلى ابنه يزيد ابن معاوية.
وفى التمهيد لاستخلاف يزيد ابن معاوية قال الشاعر:
بنى خلفاء الله مهلاً فإنما.. يبوئها الرحمان حيث يريد
وبعد استخلافه قال الشاعر وهو يخاطبه:
فأنت لرب العالمين خليفة.. ولى لعهد الله بالحق عارف
وعلى ذلك جرى الشعر وسار الشعراء.
ج.. في العام 60 هجري خلع أهل المدينة بيعة يزيد ابن معاوية لما عُرف عنه من فسق. فأرسل يزيد جيشاً بقيادة مسلم ابن عقبة حيث قاتل أهل المدينة فهزمهم في موقعة الحَرّة. وأصدر قائد الجيش أمرا لجيشه باستباحة مدينة النبي ثلاثة أيام، قُتل فيها الكثيرون وفُضّت بكارات الكثيرات. ولما وصل الخبر إلى يزيد قال:
ليت أشياخي ببدر شهدوا.. جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلوا فرحاً.. ولقالوا ليزيد لا فشل
أي إن الخليفة السادس لم يخف شماتته في أهل المدينة الذين هزموا أجداده لنصرة الإسلام والنبي (صلعم) في موقعة بدر.
وعندما وُلى الخليفة عبد الملك ابن مروان سنة 65 هـ ، 885 م كان يقرأ في المصحف، ولما جاءه نبأ استخلافه وضعه جانباً وقال: هذا آخر عهدي بك. وبهذه المقالة فرّق عبد الملك ابن مروان بين الدين والسياسة، وأدرك أنهما لا يجتمعان. ومن ثم فقد خطب في الناس قائلاً: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه!!
بعد خلافة الأمويين التي لم يكن فيها حاكم عادل إلا عمر ابن عبد العزيز حفيد عمر ابن الخطاب، وقد قتل قبل أن يكمل العامين من حكمه، إذ دُس له السم، بعد هذه الخلافة التي سقطت بواسطة الفرس بقيادة الخراساني، وُلى الخلافة أولهم أبو العباس الذي يُكنى بأبي العباس السفاح خطب في الناس فقال فيما قال: أنا السفاح المبيح والثائر المنيح، لكم منا ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسول الله (صلعم) وذمة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله. وأعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم عليه السلام (وهى نبوءة لم تتحقق).
وتواتر قول الشعراء للخلفاء العباسيين أنهم خلفاء الله، من ذلك:
• وما الناس اجتبوك بها ولكن.. جباك بها الملك الجليل
• ولو رامها أحد غيره.. لزلزلت الأرض زلزالها
• يا ابن الذي ورث النبي محمداً.. دون الأقارب من ذوى الأرحام
• يا أمين الله في خلقه.. ووارث الكعبة والمنبر
• خليفة ربى وابن عم نبيه.. وخير بنى العباس منهم وُلى
ج.. ومع كل هذا التأليه والتقديس فإن شأن الخلفاء هان وزال إزاء سلطان الوزراء الفارسيين ثم الأتراك (التتار) حتى قال المتوكل الخليفة العاشر من خلفاء العباسيين:
أليس من العجائب أن مثلى.. يرى ما قلّ ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً.. وما من ذاك شئ في يديه
وغلب الفساد والفجور في بغداد عاصمة الخلافة ، وهوّن ذلك من شأنها وأضعفها، فقال في ذلك شاعر زاهد:
قل لمن أظهر التنسك في الناس.. وأمسى يُعد في الزُهاد
الزم الثغر والتواضع فيه.. ليس بغداد منزل العبّاد
ثم تقطعت الخلافة في دويلات، وأدى ذلك الذي حدث في أوائل القرن الرابع الهجري (عام 334 هـ، 935 م) إلى أن كانت فارس والري وأصفهان والجبل في أيدي بنى بويه، وكرمان في يد محمد ابن الياس، والموصل وديار ربيعة وديار بكر وديار مضر في أيدي بنى حمدان، ومصر والشام في يد محمد ابن طغج الإخشيدي، والمغرب وشمال أفريقيا في يد الفاطميين، والأندلس في أيدي ملوك الطوائف، وخراسان في يد نصر ابن أحمد لساساني، والأهواز وواسط والبصرة في يد البريديين، واليمامة والبحرين في يد أبى طاهر القرمطي، وطبرستان وجرحان في يد الديلم، ولم يبق في يد الخليفة العباسي إلا بغداد وأعمالها.
وقبل ذلك التقطع والتشرذم الواضح والبالغ، ففي فجر الإسلام وإبّان الخلافة الراشدة وُجدت خلافتان إحداهما لعلى ابن أبى طالب والثانية لمعاوية ابن سفيان. وفى عهد الخلافة الأموية وُجدت إلى جانب هذه الخلافة خلافة كان مركزها مكة وكانت لعبد الله ابن الزبير.
وفى عز الإسلام ومجده كانت توجد خلافات ثلاث. الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في مصر، والخلافة الأموية في الأندلس.
لقد نشأت الخلافة لولاية أمر المؤمنين، ووقع خطأ في اختيار لفظي الخلافة والخليفة، أراد أبو بكر الصديق أن يصححه فلم يستطع، وعمل عمر ابن الخطاب على أن يُستبدل باللفظ تعبير آخر هو أمير المؤمنين. لكن – منذ عهد عثمان ابن عفان – عاد الاستعمال إلى لفظ “الخليفة” لما له من بريق، ولأنه يمكن مع التأويل أن يصير دلالة على خلافة المسلمين أو خلافة النبي. كما يمكن مع التضليل صرف اللفظ ليكون خلافة الله، كما حدث في شعر حسان ابن ثابت، وعلى ما استُعمل في الشعر عامة، على ما أنف بيانه.
ومع الغزوات المستمرة، امتد حكم الخلافة إلى بلاد كثيرة، فغلب عليه الأسلوب السياسي، وبعدت عنه فكرة الإمامة الدينية؛ وبهذا الوضع ظهر على المؤمنين وصف المسلمين، وغلب على هؤلاء حصر الإسلام في الشعائر والمظاهر.
وتسرب الإيمان الحق إلى الشعوب – بعيداً عن الخلافة – ليكوّن العقيدة الشعبية، والتي انقسمت بين التصوف والباطنية.
وفى هذا الحال، كان ينبغي وما زال يتعين أن يعالج على أساس الحكم الذي ذكرته الآية القرآنية (قال الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان إلى قلوبكم)، سورة الحجرات آية رقم 14.
إن الدين يجمعّ لكن السياسة تُفرّق.
(للدراسة بقية).
* القاهرة