في التاسع من سبتمبر 1880 قاد الضابط المصري أحمد عُرابى تمردا عسكريا لمجموعة من الضباط وقدموا للخديوي توفيق عددا من الطلبات لإصلاح الأحوال العسكرية والاقتصادية والسياسية للبلاد التي كان تدهورها ذريعة للتدخل الأجنبي من قبل انجلترا وفرنسا بالإضافة إلى التدخل العثماني، ورد الخديوي على هذه المطالب قائلا:” كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، فقد ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا”. فرد عليه عرابي بقولته الكبيرة الشهيرة: “لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو لا نورَّث ولا نُستَعبَد بعد اليوم”.
ولكن المؤسف أنه في واقع الأمر ما زال الشعب المصري- ومنذ بناء أول دولة في التاريخ عندما قام الملك “مينا” بتوحيد القطرين الجنوبي والشمالي وإلى اليوم- يورّث من حاكم إلى آخر دون أن تكون له الحرية الحقيقية لاختيار حاكمه من بين عدد من المرشحين بطريقة ديمقراطية شفافة وفاعلة. فمنذ انتهاء التوريث الرسمي بإعلان الجمهورية من قبل ضباط حركة يوليو، راح حكام مصر يرتدون أزياء الديمقراطية ويرفعون أعلامها دون اعتناق مبادئها وروحها وآلياتها. فقدّم عبد الناصر للشعب “استفتاءات” على رئيس الجمهورية بـ”نعم أو لا”- واتبعه السادات بمسرحيات هزلية أقام فيها “منابر”! وتعددية حزبية مزيفة. إذ قام – وهو رئيس للجمهورية – بإنشاء “حزب مصر” ونصب نفسه رئيسا له، فهرول للانضمام له كل من يريد نصيبا من الكعكة السياسية والاقتصادية في مصر. ثم تغير إسمه إلى “الحزب الوطني” اليوم، وهو – كونه حزبا فوقيا هبط على الناس من أعلى الكرسي الرئاسي- يفتقد إلى ابسط بديهيات الشرعية ولا صلة له بالديموقراطية الحزبية الحقيقية.
وفى هذا المناخ المسرحي الهزلي المجافى للروح الشعبية الأصيلة التي عبر عنها بقوة البطل أحمد عرابي التي رفضت في إباء أن يكون الشعب المصري ميراثا يورث يستمر المسلسل الرجعى البائس الذي يسمح بتوريث مصر- وهو المسلسل الدرامي الأول الذي يتابعه المصريون منذ سنوات وإلى اليوم. بلا أمل في نهاية قريبة تخرج مصر من مصاف الدول القليلة الغارقة في مستنقعات التوريث إلى نور الطريق نحو مشارف الديموقراطية الحقيقية التي تتمتع بتداول السلطة بالإرادة الحرة للمواطنين دون إرهاب معنوي سياسي أو دينى يسطع كالسيف فوق رؤوسهم.
وفى مسرحية الديموقراطية الهزلية التي تعرض على الساحة المصرية نجد أن الأغلبية العظمى من الشعب المصري تلعب دور المتفرجين الذين ينظرون للأمر بنوع من الدهشة المسلية في انتظار ما سيقدمه لهم المخرج في نوع من المعرفة المسبقة والاتفاق المشترك بين المؤلف والمشاهدين على أن ما نحن بصدده ما هو إلا تمثيلية وهمية، نوع من الصخب والإمتاع والتهريج البصري – السمعي بألوانه وأنواره وأرديته ومشاهده وحواراته ومفاجأته المثير للدهشة وبعض التسلية والترويح عن النفس ولكن تأثيره لا يخرج عن حدود خشبة المسرح التي يجرى عليها، ولا يطال حياة المشاهدين الحقيقية بأي شكل.
ولكن، بين هؤلاء المشاهدين، هناك دائما قطاع من المثقفين الواعين الذين يدركون الأمر بشكل أكثر وعيا بما يجرى في اللحظة أمامهم وبعلاقته بما جرى في الماضي وما يمكن أن يكون في المستقبل ، هؤلاء هم الصفوة من المفكرين والفنانين والمبدعين الذين يحملون بين جوانحهم ضمير وآمال وآلام الآمة ، ولذلك فإن أغلبية هؤلاء يرفضون سيناريو التوريث باعتباره أكثر السيناريوهات المعروضة رداءة وبذاءة. هؤلاء هم أمل مصر وروحها الحرة الحقيقية. هم كذلك لأن انتماءهم لمصر هو انتماء روحي إنساني نقى بحت، فهم ليسوا من مجموعة المنتفعين مما يوزعه النظام من هبات ومنافع ومراكز، وليسوا من رجال الأعمال المتمتعين بما يطرحه النظام من مناقصات ومزايدات وعقودات وخصخصات، ولذلك فعلاقتهم ببلدهم لا تشوبها شائبة ولا شبهة، هي علاقة إنتماء وولاء وحب ووله وإباء وأمل.
وهم لهذا أيضا الأكثر حزنا لما آل إليه حال مصر اليوم، فمصر اليوم في أسوأ أحوالها منذ أكثر من قرن من الزمان، وكافة الدراسات والقوائم الدولية والمقارنات الموضوعية تضعها في مرحلة متدهورة جدا على الأصعدة الثقافية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد فقدت دورها الريادي ليس فقط في الدوائر الإفريقية والأسيوية بل العربية أيضا. وراح شبابها بمئات الآلاف يهربون من الحياة بها هروبا يعرضهم لخطر الموت ومع ذلك يقومون به- في سابقة من نوعها على مدى تاريخ مصر الطويل كله!
ورغم هذا يجد المصريون أنفسهم يشاهدون محاولة النظام المسئول عن هذا التدهور خلال الثلاثين عاما الأخيرة توريث مصر إلى جيل جديد من نفس العائلة، وسيكون هذا عن طريق ترشيح الحزب الوطني- وهو الحزب الذي هبط على الناس من أعالي كرسي الرئاسة بشكل يفقده شرعية الأحزاب الحقيقية- للسيد جمال مبارك مع وضع العراقيل ضد كل مرشح آخر عدا بعض المشرحين اللازمين لديكور المسرحية، وتتم انتخابات على الطريقة المصرية المعهودة لكي يبدو أن الابن قد حل محل الأب بأسلوب ديموقراطي شرعي يستند على تعددية حزبية تنافسية!! وعلى المتفرجين حبس ضحكاتهم طيلة العرض الدرامي البديع!
وفى هذا الجو الملتبس المؤلم البائس من المهم التعرض لدور جماعتين هامتين في قضية توريث مصر، هما الأخوان والأقباط.
جماعة الاخوان المسلمين
تذبذب موقف الإخوان المسلمين بين نوع من التأييد الضمني للتوريث بالقول أن من حق جمال مبارك كمواطن مصري ترشيح نفسه للرئاسة مثل أي مواطن آخر، وسط أقوال ترددت عن صفقة بين النظام والإخوان لعدم الاعتراض على التوريث مقابل امتيازات سياسية إضافية مثل زيادة عدد نوابهم في مجلس الشعب وإطلاق أيديهم أكثر في الشارع المصري، وصولا إلى موقف معارض لترشيح جمال مبارك بأي شكل لعدم حيادية الأجهزة وتأثيرها في الانتخابات. وقد يتغير موقفهم الأخير بعد كتابة هذا المقال فقد تعودنا على مواقف زئبقية وتضارب وتغيرات مفاجئة في مواقف الإخوان بشكل يكاد أن يكون ثابتا على مدى تاريخهم.
وفي الواقع أن الموقف المعلن للإخوان سواء بالتأييد العلني أو الضمني أو المعارضة التامة أو المشروطة ليس في النهاية هو الموقف المؤثر للإخوان في هذه القضية. موقفهم ليس عاملا فعالا وإنما وجودهم في حد ذاته هو العامل الحاسم الذي يلعب دورا هائلا في موضوع توريث مصر. ذلك أن وجود الإخوان كتنظيم قوي مؤثر وحركة دينية سياسية معا- ولو كانت محظورة رسميا وقانونيا – قد منح النظام أعظم أسلحته التي يرعب بها كل من يفكر في تبادل السلطة بعيدا عن حكم الرئيس مبارك وإبنه. إذ يقدم النظام نفسه داخل مصر وخارجها باعتباره حامي الوطن من خطر الإخوان وما يسعون وراءه من دولة دينية تعيد حكم الخلافة إلى مصر ومن ورائها العالم العربي كله، بل وغير العربي أيضا إن أمكن.
ويقول النظام للشعب المصري – ولأمريكا والدول الأوربية – |إما أنا أو الإخوان؟” وأمام المشهد الكئيب والمرعب حقاً لحكومة دينية يترأسها إخوانيون يسعون لإعادة الخلافة وتطبيق الحدود والجزية وبقية آليات وأدبيات الفكر الإخواني- السلفي المتشدد- والمستنقع المظلم الذي يمكن أن تسقط فيه مصر في حالة وصول هذا الفكر الديني الخارج عن العصر إلى مقاليد الحكم- فإن الجميع- ينتفضون جزعا وخوفا على مصر وما تمثله بكل تاريخها. وتتراقص في أعينهم أضواء سوداء لحكومة على غرار الطالبان أو نميري السودان، وتتداعى مآسي وآلام الخراب الذي يحل بكل مجتمع يقع فريسة لمن يقفزون على الحكم مسلحين بسيوف تدعى القدسية وتنادى بالحاكمية لله الذي وحدهم ينطقون باسمه ويملكون حقه المبين ومن يخالفهم فهم من القوم الكافرين.
وهكذا تؤدي جماعة الأخوان المسلمين بمجرد وجودها خدمة عظمى للنظام الحالي يقوم على أساسها الاستمرار في قانون الطوارئ ويعزز بموجبها دوره “المنقذ” لمصر من مصير الدولة الدينية وما تنذر به من خراب وحروب أهلية ومعاداة دولية، ونموذج حماس التى تقبع على حدود مصر قريب جدا من الأذهان. والواقع أن تاريخ هذه الجماعة في مصر لا يقدم سوى حلقات لا تنتهي من الصراع مع السلطة والتآمر عليها واغتيالات لرموزها والرموز الفكرية للمجتمع المصري، مما أدى ويؤدى إلى إحباط كل محاولات النهضة السياسية والاجتماعية للبلاد. ومن يقرأ التاريخ الحديث يجد أن مصر لم تعرف نهضة حضارية فكرية ثقافية حقه إلا عندما غاب دور الإخوان في المجتمع. كما حدث بوجه واضح في العهد الناصري وقيامه بضربهم ضربة موجعة خرجوا على آثرها إلى السعودية. ثم عادوا مع بداية عهد السادات الذي ساندهم ومكنهم من الشارع المصري ومن النقابات والاتحادات والميديا فبدأت مصر على أيديهم رحلة انحدارها الحضاري التي ما تزال تتابعها حتى اليوم.
وقد قامت حركات الإسلام السياسي من أتباع ومقلدي الإخوان بنفس الدور المخرب في الكثير من الدول العربية المجاورة، تحت دعاوى سلفية وخطاب ديني رجعى قديم لم يعد يستسيغه العالم. ولا عجب أن حماس تريد الآن أسلمة مجتمعها وتدعو بعض الجماعات المرتبطة بها إلى إقامة الخلافة وتتقاتل عليها، مما يوشك بالإجهاز على البقية الباقية من القضية الفلسطينية وحقوقها العادلة.
إن حالة الضعف الوجودي الهائل الذي تعانى منه المجتمعات العربية والإنسان العربي يمكن إرجاعها بشكل أساسي إلى سيطرة الفكر الإخواني – السلفي الذي يصر على ربط الدين بالسياسة ويدخل بذلك في صراعات لا تنتهي مع كل سلطة في كل بلد عربي مما يعزز استبداد هذه السلطات تذرعا بحماية مجتمعاتها من خطر هذه الجماعة الداهم وتتأخر بهذا محاولات النهضة وتجهض كل مبادرات التنوير، بالإضافة إلى التخلف والجهل والخرافة ومعاداة العلوم والفنون والاختلاف والتفكير التي تترعرع كلها مع انتشار وسطوة الفكر الإخواني ورؤيتهم الدينية السلفية للحياة والمجتمع، مما يؤدى إلى ضعف التعليم وسيادة الفكر الخرافي وهلهلة العلوم وانحطاط قدرة الإنسان على التفكير والإبداع والخلق اللازم لصناعة الحضارة والتقدم مما يضعف المجتمع والدولة داخليا وخارجيا.
إن للإخوان – والفكر الذي يقدمونه- أضرارا هائلة للمجتمعات التي تقع فريسة لهم، وهو ما نراه في مصر بوضوح في ظل سيطرتهم الروحية والثقافية على الشارع المصري على مدى ثلث قرن أو يزيد، مما ساهم في تعزيز واستمرار النظام القائم ويؤدى الآن بشكل مباشر وغير مباشر إلى توريث مصر.
وفى مقال قادم أتحدث عن دور الأقباط في توريث مصر.
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك
ما دور الاخوان والأقباط في توريث مصر؟ (1-2)
اؤيدك فى تحليلك العقلانى الرفيع ، فوجود الاخوان فى مصر العريقة تسبب فى انهيارها حضاريا فى كافة مجالات الحياة بشكل غير مسبوف ،ويكفى ان تسير فى الشارع لترى كم هى تقترب من النموذج الطالبانى كما يتضح فى لباس النساء من حجاب ونقاب بشع وانهيار علمى وثقافى ، وانتشار لكتب السحر والشعوذة والعلاج ببول الابل وانكار لقيمة العلم،مصحوبا بانهيار كامل لمظومة القيم الاخلاقية التى تؤكدها جميع الاديان ولكن يتجاهلها اخوان الشياطين . فى انتظار مقالاتك القادمة والى الامام
ما دور الاخوان والأقباط في توريث مصر؟ (1-2)ثم ماذا فرانسوا ؟!! عرض شيق لقضية شائكة مليئة بالهموم والألام .. أكاد أقرأ ما يدور بخلدك عما هو قادم في مقالك حول دور الأقباط في توريث مصر .. إذ من خلال مطالعاتنا عما يدور في الساحة المصرية أرى أنك سوف تتحدث عن صفقة أخرى عقدتها السلطة السياسية مع السلطة القبطية في مصر . على قدر استمتاعي بتحليلاتك السياسية وفكرك الواعي أرى أننا ندور في حلقة مفرغة.. ان الوقت يمر وتقترب الساعة لإعلان نهاية المسرحية الهزلية بتولي جمال مبارك حكم مصر دون أن نقدم حلا عمليا أو سيناريو أخر لإنهاء المسرحية التي مازالت… قراءة المزيد ..
ما دور الاخوان والأقباط في توريث مصر؟ (1-2)
ان لم يكن الوحيد , فالاستاذ فرانسوا باسيلي افضل من يعالج الاشكاليات السياسية المعاصرة في مصر , اتابع مقالاته باستمرار واستزيد علما ومعرفة كل مرة , فلا تدعو هذه الفرص تفوتكم