الى المعلمين المنفيين:
هالة معروف: المرأة الرقيقة والحديدية في آن معا.
أثناء الاحتلال الفرنسي كانت النساء تهرّب السلاح الى الثوار، لكن فرنسا رغم نفيها للكثير من الثوار، لم تجرئ على نفي أي امراة.
هالة معروف تنقل علما منذ أكثر من ثلاثة عقود ويشهد لها القاصي والداني وهي مدرسة اللغة العربية بالكفاءة والعطاء، تتجرأ الأجهزة على نفيها…
محمد غانم: روائي وكاتب ومعتقل رأي سابق. لسانك سبب مصائبك.. ربما صحراء “معدان” الحل.
فؤاد حقي: من مدرس رياضيات متميز في ثانوية “المتفوقين” الى حل الكلمات المتقاطعة.
اياد عبدالله: مشروع مفكر والكاتب في صحيفة الحياة ومدرس الفلسفة صغير السن. لا مكان للفلسفة في سورية.
والى كل المعلمين المنفيين في كافة محافظات القطر..
*
الحديث عن التعليم في سورية، لا يستوي بمعزل عن خلفية المناخ العام، حيث هو مشبع بأكثر من غبار كثيف تكاد الرؤية تنعدم من جرائه الى أجل غير معلوم. فهل انحطاط التعليم هو جزء من الصورة أم هو الصورة كلها وانحطاطه باعث ومولد لكل ما نصادفه من انحطاطات وسفالات على كامل صعد حياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية؟
ليس السؤال بمعنى الاستفهام انما يفيد الاستنكار، فالشعوب التي بنت صروحها في كل ميادين التقدم، باشرت باستثمار طويل الأجل في حقل التعليم، فكان حصادها وفيرا، وتبوأت قصب السبق في كل الفتوحات العلمية عبر ( انسان ) خرج دفعة واحدة من كل مجاهيل وكهوف العفن.
أرادت من التعليم بناء الانسان، واعتبرته حجر الزاوية في الارتقاء به، فعن طريقه – التعليم – زرعت قيم الابداع والبحث والايمان بالتعددية والعمل الجماعي، ومكنت من زرع الرغبة في التعرف على الآخر، وطردت من مناهجها أية بذور للفتنة والتعصب والتمييز والالغاء، وكان ذلك، من خلال فلسفة متكاملة لنظام التعليم اهتمت بكل أعمدته الرئيسية ابتداء من المعلم أو المدرس الى المقررات والمناهج التعليمية الى التلميذ، انتهاء بالمكان، فكانت النتيجة باهرة: “مجتمع قوي يواكب الزمن”.
في سورية، نعم يوجد فلسفة تعليمية، يوجد مقررات ومناهج دراسية، توجد مدارس، يوجد معلمون ومدرسون، ولدينا تلاميذ وطلاب. ولكن لماذا نوغل في التخلف وغيرنا يوغل في التقدم؟!
لماذا مصابون بالتزمت والتعصب وغيرنا الانفتاح عنوانه والتعددية ديدنه؟
لماذا تطبعنا السلبية والبطء والركود وغيرنا يضج بالايجابية والتفاعل والمبادرات الخلاقة؟
هل في الأمر عوامل وراثية وبيولوجية هكذا كنا وهكذا جبلنا وهذا هو قدرنا؟؟
تلك نظرية عنصرية تم تفنيدها وتقطيع أوصالها والفتح العلمي والحضارة الانسانية لا يعترفان بشعب مختار ولا بعرق آري صاف والناس سواسية.
اذن، ما هي الفلسفة التعليمية المطبقة وماذا تحتوي مناهجنا الدراسية وكيف هو حال المعلم لدينا؟
الاجابة تلقي بعض من ضوء على أس التخلف ولماذا نسير الى الوراء.
وربما حزمة من أسئلة أخرى تشكل ربما أيضا بعض من جواب.
النظام السياسي الموجود ومن خلال استرايجيته العامة، و وضعه للمقررات المدرسية، هل يريد انسان سلبي أم ايجابي؟
هل يريد انسان مشارك ومتفاعل، أم انسان مقاد، مدجن، يحفظ عن ظهر قلب ما يتم حشوه به، يسلم أمره لنظام أبوي يفكر ويقرر عنه؟
الانسان الايجابي يعرف حقوقه وواجباته، يطالب بها، ينتزعها اذا تم اغتصابها، لايسكت على ظلم، لا يأله بشرا، لا يردد ببغائيا ما تقوله الصحف وقنوات التلفزيون وأولي الأمر.
الانسان السلبي لا يمتلك قراره، ببغاء يردد كلام المسؤولين، بساق عبر الخوف الى مهرجانات يعرف أن المتحدثين فيها يكذبون، لكنه يصفق لهم، يعتقد أنه فهيم فيكبر رأسه ويردد ما يقولون ويتبناه ويدافع عنه لتوكيد ذاته. ليتوازن يبتدع نكاتا تسخر من الوضع السياسي ليداري عجزه….
من يصنع الانسان السلبي وسورية نموذجا؟
نظرة ملخصة وسريعة، ترينا كيف استطاع النظام السياسي تأطير التعليم وضخّه بكل ما من شأنه مسك المجتمع أو كما عبر عنه ياسين الحاج صالح ب” المجتمع الممسوك ” أو كما بين لنا الباحث السوري سلام الكواكبي عبر بحثه الأخير:
“الشباب السوري والإيديولوجيات: علاقة تصادمية أم تجاذبية؟” وهو فصل من كتاب، حيث يشير الباحث الى “اهتمام القيمين على السلطة الى أهمية جيل الشباب والأدوار القيمة والهامة التي لعبوها في التأثير في مجرى الأحداث قبل استلام البعث للسلطة والى امكانية تحويلهم الى ذخيرة متقدة للعمل السياسي وجاءت الخطوات الاهم من خلال منظمات واتحادات متخصصة بكل قطاع شبابي وطلابي لحصر العمل ومراقبته على نحو منظم. وهذا ما قامت به على أكمل وجه منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سوريا”.
وغني عن القول أن هذه المنظمات وجدت للضبط والتحكم والمراقبة وهي أشبه بالريموت كنترول، وقد تم استيراد تلك التجارب من كوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي السابق ووجدت منظمات أخرى تقوم بالعمل ذاته في قطاعات أخرى مختلفة لتكتمل عملية المسك والتحكم بكامل المجتمع. والمتابع والمدقق لما تقوم به منظمات ” طلائع البعث ” و ” اتحاد شبية الثورة ” وفي المرحلة الجامعية ” الاتحاد الوطني لطلبة سورية ” يجد أن كل واحدة تسلم الى الأخرى، العملية أشبه ما تكون بالمدخلات والمخرجات في علم ادارة الانتاج. الطفل الطليعي الذي يتدرج ليصبح شبيبيا، وما أن يصل المرحلة الجامعية، حتى يكون عقله قد تم حشوه بكل اليقينيات والجمل المسبقة الصنع وابعاده عن أي تحليل أو تفكير نقدي، ليصل في النهاية الى شباب مؤطر ومؤدلج معبأ بكل ما من شأنه أن يبعده عن روح التسامح وقيم العصر، منثور فيه بذور الانغلاق والتعصب وروح العداء لكل مختلف عنه بالرأي، موقنا أنه يمتلك الحقيقة. تلك هي المخرجات التي يبتغيها نظام شمولي وسلطات انتهت مدة صلاحيتها منذ زمن بعيد.
في زاوية أخرى في عملية التخريب الممنهجة للتعليم أي وقف بناء الانسان، تبرز واضحة للعيان لمن تناط الادارة (مشروع بشار الأسد حكى كثيرا في التطوير الاداري ومن بديهيات و أبجديات الادارة الحديثة أنك لا يمكن أن تبني وأنت مصرا على بقاء الأطر والهياكل القديمة، واحدى هذه الاطر المادة رقم 8 في الدستور السوري التي تقسم المجتمع السوري الى مواطنين درجة أولى ودرجة ثانية) حيث معيار الولاء عوضا عن معيار الكفاءة وهنا معيار الانتماء الحزبي – البعث هنا – يسبق أي معايير علمية، ونظرة الى مدراء المدارس في كل سوريا تجدهم يكاد بالمطلق ينتمون الى حزب البعث الحاكم. وسبق لي شخصيا وبحكم عملي في مديرية التربية بالرقة أن اجريت احصاء شمل أغلب مدارس المحافظة الاعدادية والثانوية اختص فقط بمدراء تلك المدارس، فكانت النتيجة متوقعة 99,99 % ينتمون الى الحزب الحاكم وقليل جدا يكاد لا يذكر الى أحزاب الجبهة المسماة وطنية وتقدمية، وبالطبع المدارس الابتدائية مفروغ الحديث عنها هنا، فالنسبة 100 % حيث أي قادم لتولي الادارة من خارج صفوف البعث “سيخرب الجيل” والتعيينات لكل الكادر الاداري يطلق عليها في سورية ” تعيينات سياسية ” حيث فرع حزب البعث في كل محافظة هو من يقوم بها.
ما جرى أخيرا يندرج ضمن المعيار الأنف الذكر، حيث ابعادات بالجملة لخيرة المعلمين والمدرسين وتحويلهم الى أعمال مكتبية لا قيمة لها، وجميع المنفيين وهو التعبير الدقيق لما جرى، لا ينتمون الى صفوف حزب البعث، ومنهم الروائي ومنهم الكاتب ومنهم الفنان حيث يصعب احتواؤهم وتدجينهم، فأقدمت الأجهزة الأمنية بالايعاز الى مديريات التربية في بعض المحافظات على النفي. وفي ذلك يستمر النظام الحاكم في نفس النهج الذي دأب عليه منذ استلامه السلطة ومنذ قرر تحويل المجتمع الى قطيع يقوده أينما شاء لـ” تطهير التعليم” من كل ما من شأنه اثارة عقل الطالب واشاعة مناخ من حرية النقد واثارة السؤال. والمعلمون المنفيون داخل أوطانهم مشهود لهم بالخبرة والكفاءة، انما غير مشهود لهم في أجهزة المخابرات، فكان أن تم تحويلهم الى أعمال مكتبية رثة وابعادهم عن أماكن اقامتهم عشرات ومئات الكيلو ميترات حتى يتبينوا الرشد من الغي.
ahmadtayar90@hotmail.com
• كاتب سوري