كشفت حرب غزّة لبنان. كشفته كبلد لم يستطِع تحصين نفسه. سيدفع لبنان، للأسف الشديد، ثمن حرب غزّة بغضّ النظر عمّن سيخرج منتصراً منها أو حتى من دون خروج منتصر بين طرفَيها. سيدفع لبنان ثمن حرب غزّة بعدما تبيّن أنّه بلد فاقد السيادة يأتيه وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان ويطلق من بيروت كلّ أنواع التهديدات التي تضع مصير لبنان وأبناء شعبه على كفّ عفريت. أطلق تهديداته بتوسيع حرب غزّة من منطلق أنّ لبنان قاعدة عسكريّة إيرانيّة لا أكثر. تؤكّد ذلك تصرّفات “الحزب”، ووجود ممثّلين لـ”حماس” وحركة الجهاد الإسلامي في استقبال عبد اللهيان في المطار مع ما يعنيه ذلك من احتقار للدولة اللبنانية ومؤسّساتها وما بقي من الدولة والمؤسّسات.
إيران في وضع أفضل
طرفا حرب غزّة هما إسرائيل من جهة و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران من جهة أخرى. تخوض إيران حرب غزّة عبر “حماس” التي بات على إسرائيل السعي إلى القضاء عليها، مع ما يعنيه ذلك من مآسٍ تحلّ بأهل القطاع، الصغير المساحة، كي تستعيد هيبتها. من دون تلك الهيبة سيكون على الدولة العبريّة أخذ العلم أنّ مستقبلها بات على المحكّ وفي مهبّ الريح.
في المقابل، تبدو إيران في وضع أفضل من إسرائيل. لا يعود ذلك إلى أنّها استطاعت نقل المعركة إلى داخل إسرائيل وإطالتها، بل لأنّها امتلكت أيضاً الأداة الفلسطينيّة التي مكّنتها من الردّ على كلّ الأفعال الإسرائيلية، بما في ذلك قتل علماء في الداخل الإيراني. في مقدَّم هؤلاء من يعتبر المسؤول عن البرنامج النووي محسن فخري زادة. اغتيل فخري زادة في تشرين الثاني 2020. توعّدت إيران بالردّ مثلما توعّدت قبل ذلك بالردّ على اغتيال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الذي قضى عليه الأميركيون بُعيد مغادرته مطار بغداد في بداية عام 2020 أيضاً.
يبدو أنّ على لبنان دفع ثمن كلّ المواجهات التي تخوضها إيران، أكان ذلك مع أميركا أو مع إسرائيل أو مع هذه الدولة العربيّة أو تلك. بات لبنان بلداً يتقرّر مصيره في طهران. حدث ذلك سابقاً ويحدث الآن. في الماضي القريب، تبيّن في ضوء ما توصّلت إليه المحكمة الدولية، أنّ قرار اغتيال رفيق الحريري اُتُّخذ في إيران بغطاء سوري وأنّ عناصر من “الحزب” معروفة الأسماء تولّت التنفيذ. كان ذلك في 14 شباط 2005. مع اغتيال رفيق الحريري، قُضي على بيروت. لم يرَ اللبنانيون يوماً أبيض منذ القرار الإيراني القاضي بالتخلّص من الحريري الأب.
في حرب صيف 2006 افتعلت “الجمهوريّة الإسلاميّة” حرباً مع إسرائيل عندما خطف الحزب جنوداً إسرائيليين، تبيّن لاحقاً أنّهم قُتلوا. كانت نتيجة الحرب تحقيق انتصار مشترك إيراني – إسرائيلي على لبنان. في نهاية تلك الحرب، كانت في الوسط جثّة اسمها لبنان. وقف طرفا الحرب فوق تلك الجثّة ورفع كلّ منهما إشارة النصر. إسرائيل اعتبرت نفسها منتصرة، وكذلك الحزب الذي استكمل منذ انتهاء تلك الحرب سيطرته على لبنان خطوة خطوة وصولاً إلى إقرار قانون انتخابي وُضع على قياسه وإلى فرض نفسه صاحب القرار بالنسبة إلى من يكون رئيس الجمهورية!
إنقلاب يستهدف لبنان
ليست حرب غزّة سوى حلقة أخيرة في مسلسل انقلابي يستهدف لبنان من أجل القضاء عليه نهائياً بعد تغيير طبيعة هذا البلد ومجتمعه على غرار تغيير طبيعة المجتمع الشيعي فيه.
مع حرب غزّة، ذات البعدين الإقليمي والدولي أيضاً، تحوّل لبنان إلى بلد يتقرّر مصيره في طهران. لم يعُد سرّاً، باعتراف رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، أنّ لبنان لم يعد يمتلك قرار الحرب والسلم. تستطيع إيران تقرير هل يدخل لبنان حرب غزّة عن طريق فتح الحزب جبهة الجنوب أم تبقى هذه الجبهة مخصّصة فقط للمناوشات خدمة لحسابات إيرانيّة دقيقة.
نعم، يدفع لبنان ثمن عجزه عن تحصين نفسه من جهة، وسقوطه في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة” من جهة أخرى. أظهرت حرب غزّة وما سبقها أنّ القرار اللبناني، مهما كان صغيراً أو كبيراً، مُلك طهران. لم يعد في لبنان من يفكّر في انتخاب رئيس للجمهورية. يطفئ الفراغ الرئاسي بعد أيّام قليلة في 31 تشرين الأول الجاري شمعته الأولى. صار مستقبل لبنان مطروحاً أكثر من أيّ وقت في منطقة تغيّرت خريطتها السياسية كلّياً فيما الخوف من تغيير خريطتها الجغرافيّة أيضاً. لم يعد هناك من يتحدّث عن الفراغ الرئاسي الذي ينعكس على كلّ المؤسّسات. لم يعد من يفكّر في الخطر الذي يشكّله النزوح السوري إلى لبنان وسبب إصرار النظام القائم في دمشق، الذي ليس سوى لعبة في يد “الحرس الثوري”، على تهجير السوريين إلى الأراضي اللبنانيّة.
من سخرية القدر انتظار لبنان واللبنانيين، من موقع المتفرّج، ما الذي ستفعله إيران. هل تفتح جبهة جنوب لبنان أم لا تفتحها؟ هل تفتح أبواب جهنّم أم تبقي لبنان مجرّد ورقة ضغط بسبب الحاجة إلى بقاء مطار بيروت مفتوحاً؟
يظلّ أخطر ما في الأمر أنّ لبنان يبدو أكثر من أيّ وقت أرضاً سائبة بعدما تأكّد، بما لا يقبل الشكّ، أنّ مصيره يشبه مصير التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020. ممنوع أيّ تحقيق جدّي في التفجير لأسباب لم تعد تخفى على أحد. هذه الأسباب مرتبطة بأنّ الجهة التي كانت تخزّن نيترات الأمونيوم في أحد عنابر المرفأ تابعة لإيران ولا أحد آخر غير إيران.