يبدو “داعش”، الذي تسعى حكومة الدكتور حيدر العبادي الى التخلص منه، الحليف الاوّل لهذه الحكومة التي تقبل ان يكون “الحشد الشعبي” جزءا لا يتجزّأ من تركيبة السلطة العراقية، مهما تظاهرت بعكس ذلك. قامت هذه السلطة على اساس مذهبي. ليس في استطاعة ميليشيا مذهبية مثل تلك التي يمثّلها مقتدى الصدر، او غيره، اصلاح وضع اعوج من اساسه.
هناك وضع عراقي مضحك ومحزن في آن، بات فيه مقتدى الصدر شخصا اصلاحيا. الاكيد ان الصدر افضل من “حزب الدعوة” الذي ليس سوى نسخة شيعية عن حركة الاخوان
المسلمين بكل ما تمثّله من تخلف على كل صعيد، لكنّ الاكيد ايضا ان الاصلاح في العراق لا يمكن ان يقوم به شخص لا يعرف شيئا عن كلّ ما هو حضاري في هذا العالم.
اكثر من ذلك، مثل هذا الشخص لا يدرك ان لا مكان لرجال الدين وعمائمهم في اي نظام يتمتع بحدّ ادنى من الشروط التي تسمح للمواطن العراقي بان تكون له الحقوق التي يتمتع بها اي مواطن آخر في البلد، اكان شيعيا او سنّيا او مسيحيا، عربيا او كرديا او تركمانيا او ايزيديا او من اصول فارسية.
كم هو بائس بلد مثل العراق كان مؤهّلا لان يكون منارة للمنطقة. يرمز الى هذا البؤس تحوّل مقتدى الصدر الى لعب دور المصلح وقائد عملية الاصلاح. يحصل ذلك في وقت بات معروفا اكثر من اللزوم، كيف وصل الى العراق الى ما وصل اليه.
لا يمكن في ايّ حال تبرئة نظام صدّام حسين وكلّ ما سبقه من انظمة من بلوغ الحالة العراقية ما بلغته. لم يشهد العراق يوما ابيض منذ الرابع عشر من تمّوز ـ يوليو 1958، عندما حصل انقلاب عسكري على الاسرة الهاشمية. لا يزال الدم العراقي يسيل منذ ذلك اليوم المشؤوم، ما زال العراق ينزف. ما زال العراقيون يدفعون ثمن دمّ فيصل الثاني وافراد تلك العائلة المسالمة التي لم تقدّم سوى الخير للعراق والعراقيين والتي كانت تشكّل افضل غطاء لحياة سياسية طبيعية في هذا البلد الغني بتنوّعه الطائفي والمذهبي والقومي وبثرواته الطبيعية وبالمياه والانسان والاراضي الزراعية.
كان يمكن للعراق التطوّر وان يصبح بالفعل دولة ديموقراطية حديثة، لولا ذلك الانقلاب العسكري الذي اوصله الى ما وصل اليه الآن وحوّله نموذجا للشرق الاوسط الحديث. هذا الشرق الاوسط الحديث الذي يتميّز بخروج الغرائز المذهبية الى العلن وتفتيت للدول ومجتمعاتها والسعي الى اعادة رسم حدود الكيانات السياسية.
كانت المفارقة ان ادارة جورج بوش الابن ارادت تحويل العراق الى نموذج لما يمكن ان تكون عليه دول الشرق الاوسط، اي دولة تتمتّع بمؤسسات ديموقراطية. ما حصل على ارض الواقع تناقض كلّيا مع ما كانت تصبو اليه تلك الادارة الاميركية التي لم تكن تعرف شيئا لا عن العراق ولا عن طبيعة التوازنات الاقليمية.
ما حصل، كان تقديم العراق على صحن من فضّة الى ايران التي وافقت على المشاركة في الحرب الاميركية في العام 2003، لقاء ادراج عبارة “الاكثرية الشيعية في العراق” في البيان النهائي الذي صدر عن مؤتمر لندن للمعارضة. انعقد ذلك المؤتمر برعاية اميركية ـ ايرانية في كانون الاوّل ـ ديسمبر 2002.
لم يتغيّر شيء في العراق منذ تشكيل مجلس الحكم الانتقالي بعيد الاحتلال الاميركي. كان الهدف من تشكيل مجلس الحكم هذا الانتقام من السنّة العرب. الاكيد ان مقتدى الصدر ليس الشخص المؤهل لاعادة الوضع العراقي الى وضع طبيعي. فات اوان ذلك، لا لشيء سوى لان الاضرار التي لحقت بالعراق والمجتمع العراقي منذ العام 2003، تاريخ وصول الحكّام الحاليين الى السلطة على دبابة اميركية، هي من النوع الذي لا يمكن اصلاحه باي شكل.
ستكون هناك حملات عسكرية لاخراج “داعش” من بعض المناطق العراقية وصولا الى الموصل. لن تقدّم هذه الحملات ولن تؤخّر، نظرا الى ان الفكر الداعشي لا يقتصر على “داعش” وليس محصورا به. هذا الفكر يجمع بين كلّ الميليشيات المذهبية اكانت سنّية او شيعية. المؤسف في الامر ان من يواجه “داعش” في العراق، او يتظاهر بمواجهته، دواعش شيعية امعنت في تخريب ما بقي من البلد بقرار ايراني واضح يستهدف الحؤول دون قيام قيامة للبلد في يوم من الايّام.
ربّما كان مقتدى الصدر يمتلك كلّ النيات الحسنة، ربما اكتشف اخيرا ان ايران تعارض قيام اي مؤسسات عراقية ليست تحت سطوة هذه الميليشيا المذهبية او تلك. ربّما ادرك معنى ان يصل احدهم الى السلطة على دبابة اميركية، ثمّ يعلن انّه يقاتل “الاحتلال” الاميركي كونه يفضّل الاحتلال الايراني المباشر. كلّ هذا وارد. لكنّ بناء دولة حديثة لا يمرّ باشخاص من هذا النوع لا يعرفون شيئا عن كيفية بناء الدول الحديثة بعيدا عن الطائفية والمذهبية ورجال الدين. لا يمكن قيام دولة حديثة على ايّ بقعة من الارض في ظلّ رجال الدين. لم تزدهر اوروبا وتخرج من تخلّفها الّا بعد التخلص من سلطة رجال الدين الذين وُضعوا في مكانهم الحقيقي واخذوا الحجم الطبيعي الذي يليق بهم ويستأهلونه…
ليس الموضوع حاليا موضوع اصلاحات وحكومة جديدة برئاسة العبادي تضمّ تكنوقراطيين. الموضوع هل يمكن استعادة العراق الذي كان يوما بلدا مزدهرا يعمل كلّ فرد فيه في الميدان والمجال المفترض ان يعمل فيهما؟
رجل الدين يهتمّ بالدين ونشر الفضيلة والتسامح والقيم الانسانية المتعارف عليها بدل التعصّب. رجل الدين لا يفهم بالسياسة التي لها اربابها. فمن شروط قيام دولة، اي دولة، ان تكون لهذه الدولة مؤسساتها الامنية، في مقدّمها الجيش الوطني المحترف وليس مجموعة ميليشيات تعتبر نفسها مظلة لهذا الجيش، تنفّذ عبره اجندة خاصة بها، كما الحال مع “الحشد الشعبي” في العراق الآن.
تجاوزت ازمة العراق الاشخاص. مات العراق يوم الرابع عشر من تموز ـ يوليو 1958، كان البلد يمتلك ما يكفي من الثروات، بما في ذلك الثروة البشرية، حتّى يتأخر دخوله النزع الاخير نصف قرن. من ادخله في النزع الاخير كان نوري المالكي الذي قضى لدى توليه السلطة على كلّ امل في اعادة بناء الدولة، خصوصا بعدما استباح حزبه الطائفي والمذهبي كلّ مؤسسة رسمية وغير رسمية وكلّ ما يرمز الى الدولة، بما في ذلك الموازنة العامة التي تبخّرت بقدرة قادر في وقت كان سعر برميل النفط في مستوى مئة وعشرين دولارا!
هل بقي شيء من العراق حتّى يمكن القول ان الاصلاحات التي ينادي بها مقتدى الصدر يمكن ان تنقذ ما يمكن انقاذه؟