هذا هو الشغل وإلا فلا..!!

0

فلنفكر في موضوع المهنة كطائفة مُغلقة، هذا شغل ماكس فيبر، طبعاً. للطائفة المُغلقة مركز وهامش، وكهنة، ونصوص مقدّسة، ولها من الشروط ما يمكّن الطامحين، والراغبين، من الالتحاق بها، أو يقصيهم عنها. وهي في كل الأحوال غيورة، ويقظة تجاه موضوع الغيرية والحدود.

ومن بين مهن كثيرة في عالم الأكاديميا الغربية (على نحو خاص) الدراسات الإسلامية. وهي عامرة السوق. وككل سوق تخضع لقانون العرض والطلب، وتحتاج للدعاية، وتجديد المعروض من البضاعة، وإلا كسدت سلعتها، وبارت تجارتها.

ولننس الاستشراق، الذي تناوله إدوارد سعيد بالنقد والتحليل. في زمن مضى كان من الممكن حشر العاملين في مهنة الدراسات الإسلامية، هذه الأيام، في طائفة الاستشراق والمستشرقين. ولكن الزمن تغيّر، وكذلك المفاهيم.

وحتى إذا حاول البعض إعادة الكرة، على طريقة سعيد، وحلل الاستشراق والمستشرقين الجدد، لن يتمكن من تجاهل حقيقة أن بينهم مَنْ لا يمكن تصنيفه كجزء من آلة إنتاج المعرفة الغربية وثيقة السلطة بالهيمنة الكولونيالية. بالعكس سيجد بينهم نقّاداً للمركزية الغربية، ومدافعين غيورين عن خصوصيات إسلامية لم يتمكن غيرهم من سبر أغوارها. وبينهم من يتبنى القضايا العربية والإسلامية، ويدافع بحماسة عن القضية الفلسطينية.

الفرق بين العاملين القدامى في الدراسات الإسلامية، والعاملين الجدد، أن أحداً من القدامى لم يكن يحصل على “لقمة العيش” في القرن التاسع عشر، من “المسلمين”، أما في أواخر القرن العشرين فقد تراكمت لدى بعض “المسلمين” من الأموال ما لا تأكله النيران. وإذا عدنا إلى العلاقة التقليدية بين المال (وهو سلطة) والمعرفة، فلنقل إن في العلاقة بين الكثير من مراكز الدراسات الإسلامية في جامعات غربية مرموقة، ومموّلين “مسلمين” من العالم العربي وخارجه، ما يحرّض على التعامل بحذر مع المعرفة التي ينتجونها، والتي غالباً ما تمتاز بقدر كبير من الأريحية، والروح الرياضية.

وإذا عدنا بالذاكرة، قليلاً، إلى الوراء، وحاولنا العثور على وسيلة إيضاح تُسهم في تقريب المعنى، فلنقل إن في شغل عدد لا بأس به من العاملين الجدد في حقل الدراسات الإسلامية، في الأكاديميا الغربية، ما يعيد التذكير بظاهرة مصطفي محمود في أوائل السبعينيات، التي ترافقت مع صعود ثروة النفط، ومع شعار دولة العلم والإيمان، الذي جعله الرئيس السادات عنواناً لعهده الجديد. وكان في حقيقة الأمر جزءاً من تصفية الإرث الناصري، وتطويق الحركة اليسارية والقومية الراديكالية في تلك الأيام.

كان مصطفى محمود طبيباً، وكتب “كتباً” ليست أكثر من موضوعات إنشاء سمتها الرومانسية، والحشو، بلا ثقافة حقيقية. ومع ذلك كانت عناوينها جذّابة من نوع “رحلتي من الشك إلى الإيمان”، و”حوار معي صديقي المُلحد”..الخ

ولكن صعود مصطفى محمود ترافق مع ظاهرة جديدة هي ظهور التلفزيون. وفي سياق كهذا أصبح برنامجه التلفزيوني عن العلم والإيمان، الذي حاول فيه التدليل على وجود كل ما يفسّر العلم الحديث، في النص الإسلامي المقدّس، من أشهر البرامج، وأكثرها انتشاراً في العالم العربي. ولم تكن معلوماته في البرنامج المذكور أكثر من معلومات طبيب درس ست سنوات في كلية الطب.

المهم، وإذا ما ضعنا الرطانة الأكاديمية جانباً، والتوثيق، والهامش، والمراجع، والتمهيد النظري الذي يسبق التمثيل والتحليل، أن الكثير من “شغل” العاملين الجدد في موضوع الدراسات الإسلامية لا يختلف كثيراً عن “شغل” مصطفى محمود.

وإذا ما بحثنا عن قاسم مشترك بين العاملين القدامى والجدد فلنقل إن “الإسلام” معطى ثابت لدى الجانبين. وهذا المعطى هو المدخل الوحيد لفهم مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا يمكن فهم الظروف الموضوعية التي أنجبت هذ المدخل في معزل عن استشراق الكولونيالية القديمة، التي سبق لسعيد نقده وتحليله، واستشراق حقبة النفط، في زمن الحرب الباردة وبعدها.

وقد أنجبت الحالتان، على صعيد المعرفة والسياسة، ما يشبه نوعاً من إلغاء الفرق بين الدين والقومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فلا أحد في الغرب يقول في نص أكاديمي، أو غيره، “الولايات المتحدة ذات الأغلبية المسيحية” أو اليابان “ذات الأغلبية البوذية”، ولكن العرب لا يوصفون إلا بالمسلمين، ولا يعيشون إلا في بلدان إسلامية، أو ذات أغلبية إسلامية. وكذلك الأمر بالنسبة للأتراك والإيرانيين.

في الكون حالة واحدة ضاع فيها الفرق بين القومية والدين، وهذه حالة اليهودية، التي تعامل في الدولة الإسرائيلية باعتبارها ديناً وقومية في آن. لا حدود لما يخلقه ضياع الفرق من مشاكل تخص بنية الدولة الحديثة، وتخص طريقة الصهيونية في تأويل التاريخ اليهودي. ولا حدود لما سيخلقه ضياع الفرق بين الدين والقومية في العالم العربي من مشاكل. وهذا يصدق، أيضاً، على الأتراك والإيرانيين.

وبقدر ما أرى الأمر تُسهم عوامل كثيرة في إلغاء الفرق منها المركزية الأوروبية، في صورتها الكولونيالية العدوانية، وفي تجلياتها، التي تعاني من عقدة الذنب، وطلب المغفرة، في الاستشراق الجديد. هناك، أيضاً، العلاقة بين المال والعرفة.

وبهذا نختم: جون إسبوزيتو مختص في الدراسات الإسلامية، ويعمل في الوقت الحالي مديراً لمركز الوليد بن طلال للتفاهم المسيحي ـ الإسلامي في جامعة جورجتاون. يحصل الأخ إسبوزيتو على “لقمة العيش” من شغله في، وعلى، الإسلام. وآخر كتبه: “الإسلام والديمقراطية بعد الربيع العربي”. برافو، هذا هو الشغل وإلا فلا.

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.