موقف « سيبويه » والنُحاة من القراءات القرآنية

3

(الصورة: ضريح « سيبويه » في « شيراز ». « إمام النحاة العرب »، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي البصري، كان فارسياً و« سيبويه » هو لقبه ويعني « رائحة التفّاح » بالفارسية.)

 

 

يُشكل البحث في موقف ورأي النحويين من القراءات القرآنية ركيزةٌ أساسية لمعرفة اصل القرآن ومراحل التدرّج في كتابة النص القرآني تزامناً مع تطور قواعد الصرف والنحو في اللغة العربية.

 

وتأليفُ النحو لم يأتِ بين ليلة وضحاها، وإنما جاء بعد مجهود كبير جداً من قِبل علماء النحو الأجلاء الذين كرسوا حياتهم من أجل تنفيذ هذه المهمة الشاقة. وقد سيطرت « مدرسة البصرة » في العراق على مجرى النحو العربي في الأغلب الأعم، منذ النشأة إلى عصرنا الحاضر، حتى إنه يصحُّ أن يُقال إن النحوَ العربي في تاريخه الطويل نَحوٌ بصري!

ولعل من أهم علمائها في النحو « سيبويه » الذي هو « حجة العربية »!

 فهو أول من بسّط علم النحو. وعلى الرغم من إنجازاته التي بين أيدينا الآن إلا أن التاريخ لم يحفل بذكر الكثير عن حياته. فقد استطاع « سيبويه » هذا العالم العبقري، في الفترة القصيرة التي عاشها (توفي في عمر 32 عاماً) أن يؤلف كتاباُ سمي « الكتاب » يُعتبر دستور اللغة العربية، انتهج فيه منهجا خاصا جداً. احتوى « الكتاب » على أكثر من تسعمائة وعشرين صفحة قسّمها على عدة أقسام وأبواب، ويقع في جزئين.  الأول، موضوعه « مباحث النحو ». وأما الجزء الثاني فيبحث في « الممنوع من الصرف » و« النسب » و« الإضافة » و«التصغير » وكل ما يتعلق بـ« علم الصرف »، بالإضافة إلى « المجاز » و« المعاني » و« ضرورات الشعر » و« تعريب اللغة الأعجمية » و« مباحث الأصوات العربية ».

ويعتبر هذا « الكتاب » موسوعة حقيقية للغة العربية.

 

كيف تعامل سيبويه في كتابه مع القراءات القرانية ..؟

ذكرنا انه لم يكن وجود لـ « قرآن نموذجي موحد » كالذي بين أيدينا اليوم عندما كانت « المدرسة البصرية » تشيّد صرح النحو العربي في القرن الثاني الهجري، وتحديداً في 180 هجرية، عندما أتم « سيبويه » كتابه في قواعد الصرف والنحو. بل كان هنالك بَدَلاً منه  في تلك الحقبة الزمنية اكثر من قراءة قرآنية غيرُ مكتملةٍ تراكمت عبر العصور مع تطور اللغة العربية، الى ان اصبحت سبع قراءات متواترة. وكان أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (توفي ٣٢٤هـ)، أول من ألف كتابا في القراءات السبع. ثم استقر الاعتماد العلمي في القرن التاسع الهجري، بعد زيادة ثلاث قراءات أخرى أضيفت إلى القراءات السبع، اقرها علماء اللغة العربية في بحثهم لتحديد القراءات المتواترة. وكانت الإضافة على وجه التحديد على يد « الإمام ابن الجزري الدمشقي الشيرازي » (توفى 833 هجرية)، فأصبح مجموع المتواتر من القراءات عشر قراءات.

ويُصرُّ رجالات الدين سنةً وشيعة بأن الاختلاف كان بسبب تباين « عرب الجزيرة » في فهمهم واستيعابهم لكلام الوحي, وانه اختلاف في التقديم والتأخير والإعراب في الكلمات دون تغير المعنى الأصلي للأيات..! بالطبع، حتى اذا كان هذا الكلام صحيحاً فأنه ينسف فكرة ان القرآن هو كلام الله في اللوح المحفوظ حماه الله من الزيادة والنقصان { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } الأنعام 115.

إن الدراسات النحوية التي تناولت بحث « الشواهد النحوية »، أو الأصول التي اعتمدها النحاة في استنباط القواعد النحوية تُعيب على سيبويه قلة استشهاده بآيات القرآن، وأنه اعتمد على الشواهد الشعرية في التقعيد للكلام العربي أكثر من اعتماده على الآيات القرآنية! وتعتقد أيضا أن « سيبويه » وأساتذته، واللاحقين له من أعلام « المدرسة البصرية » كانوا يُخْطِئُون القراء والقراءات القرآنية ولم ينظروا إلى القراءات القرآنية بقدسية، وإنما تعاملوا معها على أنها لغات عربية تمثل لسان قارئيها وانتماءاتهم القبلية أو المكانية. وكان سيبويه عندما يعقب على القراءات القرآنية يقول: (هذه لغة ضعيفة)!

إذاً، « سيبويه »، ومن قبله « الخليل بن أحمد الفراهيدي »، إنما قَعَّدوا نحوَ الكلام العربي، وليس نحوَ القرآن! لذا، فهم اعتمدوا الشعرَ العربي أكثر لكثرة تداوله على ألسنتهم.

نَخلصُ من هذا إلى ان توحيد القراءات القرآنية وظهور قرآن واحد كالذي بين ايدينا كان بعد عصر « سيبويه »، ربما في القرن التاسع الهجري بعد فترة « ابن الجزري »، أي قبل نحو خمس مائة عام.

بالرغم من ان كثير من المفكرين الاسلاميين استنكروا رأي سيبويه حول القراءات القرآنية لانه يعارض فكرة الوحي ،الا ان كثيرا من أئمة الآدب العربي أثنوا ومجّدوا كتابه لأنه كان ضروريا بل محوريا لتوحيد اللغة العربية…

قال الجاحـظ (توفى 255هجرية)عن كتاب سيبويه أنه «لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله».

وقال صاعد الأندلسي (توفى462 هجرية): ” لا أعرف كتابًا أُلِّف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها: « المجسطي » لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني: كتاب أرسطوطاليس في علم المنطق، والثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي؛ فإن كل واحد من هذه لم يشذّ عنه من أصول فنِّه شيء إلا ما لا خطر له”.

كان ظهور هذا الكتاب مصيريا لتطور قواعد اللغة العربية .. وصار مرجعاً لغوياً لأكثر من ألف عام لا يضاهيه أى مصدر آخر.

لكن، كتب الفراهيدى وسيبويه لم تُنشر وتدرس الا بعد انتشار حرفة صناعة الورق في عصر هارون الرشيد فى 795ميلادية ( 198هجريه)

 

* يمكن البحث في « النت » عن موقف سيبويه من القراءات القرآنية

Subscribe
Notify of
guest

3 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شيرين الطيب
شيرين الطيب
2 years ago

رائع!
يعتبر هذا المقال بحثًا مهمًا عن النحوى سيبويه والمادة اللغوية التى انتج منها قواعده النحوية. إن الإشارة إلى عدم قدسية القراءات القرآنية بمثابة إشكالية تأكيدية على أن الوحى مجرد أسطورة تم تناقلها شفهيًا دون إثبات، وأيضًا تشير إلى أن من صاغ القرآن بمختلف أشكاله يمتاز بعقلية جامعة ساعدته فى كتابة قصص تتعالق نصيًا من التراث اليهودى وتُحاكى الطبيعة البشرية القبلية. تناول مدهش لإزالة القشور عن العقول، كما راق لى الإحالة البحثية فى آخر المقال عن موقف سيبويه من القراءات القرآنية.

Share.