ماذا يجرى في مصر (9)

0

نظراً للتقطع والتفكك والفسفسة التي انتهى إليها الوضع في الخلافة العباسية، كتب المؤرخ المسعودي يشكو من “ضعف الإسلام في ذلك الوقت وذهابه، وظهور الروم على المسلمين، وفساد الحج، وعدم الجهاد، وانقطاع السبل، وفساد الطريق”.

ثم يضيف “إنه لم يزل (يقصد: كان) الإسلام مستظهرا إلى هذا الوقت، فتداعت دعائمه وهى أسّه؛ ويضيف المؤرخ المسعودي عن بغداد عاصمة الخلافة فيقول: “كانت أحسن شيء للمسلمين، وأجلّ بلد. حتى ضعف أمر الخلافة فاحتُلت وخفّ أهلها. فأما المدينة فخراب، والجامع فيها يعمر في الجُمع، ثم يتخللها بعد ذلك الخراب. وهى كل يوم إلى الوراء، مع كثرة الفساد والجهل والفسق وجور السلطان”.

وفى وصف الحكام الذين انتهوا بالخلافة والمسلمين إلى هذا الوضع المزري، قال أبو العلاء المعرى:

مُلّ المقام فكم أعاشر أمة.. أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها.. وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وعلى ما سلف، فقد كانت مصر في يد (أي حكم) محمد ابن طغج الإخشيدي. وإذ تُوفى فقد ترك ولدا قاصراً يدعى أنوجور، فآلت الوصاية عليه إلى كافور (العبد) الملقّب بالإخشيدي (نسبة إلى مواليه الإخشيديين). وحصل كافور على موافقة الخليفة العباسي على تولية الأمير الصغير على مصر والشام وعلى المدينتين المقدستين مكة والمدينة، (وكانتا تتبعان حكم مصر). وفى العام 355هـ أخرج كافور كتاباً من الخليفة العباسي بتقليده ولاية مصر.

وظل كافور على رأس البلاد المصرية وبلاد الشام وحاكماً للحرمين مدة سنتين وأربعة أشهر (من 10 صفر 355هـ حتى 30 جمادى الأول 357هـ). وكان منحوس الطالع فتعرضت بلاد الشام في عهده إلى غزوات من القرامطة (وهم من الشيعة الإسماعيلية) ووقعت بمصر زلازل، وأغار ملك النوبة على مصر، وانخفض ماء النيل لمدة تسع سنوات (من 351هـ حتى 360هـ) قبل عهد كافور، وخلاله وبعده، حتى قاست البلاد الأمرّين من القحط والأوبئة التي نجمت عن ذلك، واشتد الغلاء وندر الطعام؛ وثار الجند الترك والروم على كافور لعدم دفعه رواتبهم وأرزاقهم.

دفعت هذه العوامل – وغيرها – الفاطميين الذين كانوا يحكمون إفريقية (تونس وما جاورها حالاً) إلى غزو مصر. وكانوا قد حاولوا ذلك مرات عدة منذ بدأ حكمهم، حتى نجحوا أخيراً، ودعي للخليفة الفاطمي على المنابر (محرم 359هـ)، ومن ثم امتد حكمهم من مصر إلى الشام والحجاز.

غزا مصر القائد جوهر الصقلي، وكان الخليفة الأول المعز لدين الله الفاطمي، ولقب الفاطمي نسبة إلى فاطمة إبنة النبي وزوج على إبن أبى طالب، ومن ثم فقد كانوا شيعة إسماعيلية (وهى فرقة من الشيعة غير الشيعة الإثني عشرية التي توجد في إيران).

ولم تكن هذه الخلافة مؤلّهة، تكتفي باعتبار الخليفة الفاطمي خليفة الله، لكنها تجاوزت ذلك إلى الإدعاء بأن الخليفة كأنما هو ألوهية ونبوة، وفى ذلك يقول الشاعر في الخليفة الفاطمي:

هذا معدّ والخلائق كلها.. هذا المعز متوجاً والدين

هذا ضمير النشأة الأولى التي.. بدأ الإله وغيبها المكنون

النور أنت وكل نور ظلمة.. والفوق أنت وكل فوق دون

فارزق عبادك منك فضل شفاعة.. وأقرب بهم زلفى فأنت مكين

ويقول:

لو أبصرتك الروم يومئذ دَرَت.. أن الإله بما تشاء كفيل

ويقول:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار.. فاحكم فأنت الواحد القهار

ويقول:

وأقسم لو لم يأخذ الناس وصفه.. عن الله لم يُعقل ولم يتوّهم

واشتد العداء بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة التي شيدوها وأقاموا بها الجامع الأزهر (والأزهر تذكير للزهراء لقب فاطمة بنت النبي، التي كانت تدعى فاطمة الزهراء). وأدى هذا العداء إلى أن كتب الخليفة القادر العباسي في معنى الخلفاء الفاطميين، وقّع عليه القضاة والأئمة والأشراف، وجاء فيه عن الخلفاء الفاطميين “أنهم الأرجاس والأنجاس. أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد على ابن أبى طالب، وأن ذلك باطل وزور.. وأن هذا الناجم بمصر (أي الخليفة الفاطمي) هو وسلفه كفار وفساق وفجار وزنادقة. ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون. فقد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادّعوا الربوبية…). وتكرر ذلك في محضرين تاليين.

هذا هو رأى أمراء المؤمنين الخلفاء العباسين في أمراء المؤمنين الخلفاء الفاطميين. فإن صح، فإن الخلافة الفاطمية تكون خارجة عن الإسلام وخارجة على الشريعة. وإن لم يصح فإن الخلافة العباسية تكون قد تردّت إلى تكفير أمراء المؤمنين الخلفاء الفاطميين والطعن على نسبهم واتهامهم بكل كبيرة.

بدأت الخلافة الفاطمية في مصر واستمرت زهاء مائتي عام، وكانت من جانب باهتة شاحبة ومن جانب آخر ثقيلة ظالمة. وأشهر حكامها هو الحاكم بأمر الله (أبو على المنصور) وحكم من 381هـ – 1035م حتى اختفى دون أن يُعرف ما حدث له في 411هـ – 1020م. وقد كان حاكماً شاذ التصرفات والمفاهيم بكل المعايير. وأفعاله، المنافية للعقل والمنافية للعرف، أكثر مما تُحصى ومنها أنه اشتد على المصريين الأقباط، وكانوا جُلّ الشعب المصري، لأن أغلب المسلمين في مصر كانوا من الأعراب الذين وفدوا من بلاد الحجاز. وكذلك فقد وصلت شدته إلى اليهود. حتى دخل الإسلام من الأقباط كثيرون جداً، زرافات زرافات، ثم ارتد أغلبهم بعد زوال ملكه.

واعتزم (الحاكم بأمر الله) نبش قبري أبى بكر وعمر في المدينة، ورشا رسلاً لهذا الغرض، وكاد أن ينجح لولا أن اكتشفت المؤامرة وأُحبطت.

وحاول هدم كنيسة القيامة بالقدس، وكانت محاولته تلك – التي أخفقت – أهم أسباب قيام الحروب الصليبية.

وغالى في إدعاء الإلهية، وخوطب صراحة بعبارات وأوصاف الجلالة.

أما أهم حدث، كانت له نتائج حضارية على العالم أجمع، فهو أنه أمر المصريين بأن يتكلموا باللغة العربية بدلاً من المصرية التي كانت سائدة منذ فجر التاريخ، ثم غيرّت الكنيسة (الكاثوليكية) الكتابة بالحروف الهيروغليفية إلى الكتابة بحروف إغريقية (يونانية) مع إضافة خمسة أحرف للتنوين والمواءمة بين الكتابتين، لكن ظل المصريون يتكلمون بلغتهم الضاربة في القدم حتى أكرههم الحاكم بأمر الله على السكوت عنها تماماً والتكلم بالعربية. وكان يأمر بقطع لسان من يتكلم بغير العربية. ومن وقته، شاع بين المصريين القول بأن (أقطع لسانك، أو ينقطع لساني إن قلت كذا أو كذا).

وحدث أن عُين صلاح الدين الأيوبي وزيراً، وكان ظهيراً لعمه شيركوه – وإذ كان سنيا فقد عمل على القضاء على الخلافة الفاطمية التي كانت قد شاخت ووهنت، فأسند أعمال الفقه إلى فقهاء من أهل السنة فقضى ذلك على نفوذ الشيعة، ثم قام رجل من فارس ودعا للخليفة العباسي (أول جمعة من المحرم 567هـ – 1171م) وتوفى الخليفة الفاطمي في العاشر من المحرم دون أن يعرف هذا الذي حدث بعزله، وبذلك سقطت الخلافة الفاطمية، وعادت مصر ولاية في الخلافة العباسية.

وكان أهم سلبيات الخلافة الفاطمية:

أ.. إكراه المصريين على ترك الحديث باللغة المصرية القديمة، والحديث باللغة العربية. ولو لم يكن ثمت تعصب لظل المصريون يتكلمون اللغتين، ولأفاد ذلك الحضارة، كما حدث من بقاء اللغة الصينية حتى اليوم، مع تحدث الكثير من الصينيين باللغة الإنجليزية.

ب.. استجلاب المماليك العبيد من القوقاز وجركسيا. ذلك أن الغزاة كانوا يحرصون دائماً على ألا يكون الجيش من أبناء مصر. وإذ كانت صلة الخلافة الفاطمية قد انقطعت بأصولها الكائنة في أفريقية (تونس) لاستقلال الحكام الجدد بها، فقد شرّع الفاطميون سنّة استجلاب الجند من أبناء القوقاز (جنوب الروسيا) ومن جركسيا (شركسيا)، وتدريبهم ليكونوا جنوداً، فيحجبوا المصريين عن الجندية حتى لا يستقلوا ببلدهم. ولم يكن من شأن العبد الذي نُشّئ ورُبّى على خلق العبيد أن يعرف أو يفهم خلق السادة، حتى وإن وصل إلى مناصب السيادة. وكان لهذا الأمر أثر سلبي جداً على خلق المصريين الذين صار العبيد أمراؤهم وسادتهم، والمثل يقول “الناس على دين ملوكهم”.
وكان نابليون بونابرت هو الحاكم الأجنبي الذي عرف قيمة الجندي المصري، فقال قولته الشهيرة “لو أن لي جيشاً من المصريين لغزوت بهم العالم”. وتحقق ذلك في عهد محمد على إذ كان جنده من الفلاحين، ولم يُهزم في معركة قط ، بل وهدّد الباب العالي، وكاد أن يكون خليفة للمسلمين، ويجعل الخلافة في مصر، لولا أن تكالبت عليه القوى الأجنبية التي خشيت من صعود نجمه، كي لا تحل قوة صاعدة محل الخلافة (أو السلطنة) العثمانية التي كانت قد وهنت وضعفت، وصارت في حال يشي بالسقوط وانتهاء الخلافة الإسلامية.

ج.. وكانت تصرفات الحاكم بأمر الله في محاولة نبش قبري أبى بكر وعمر، اللذان يناصبهما الشيعة العداء دون وجه حق، ثم إجتراؤه على الشروع في هدم كنيسة القيامة (التي يؤمن المسيحيون في العام أجمع أنها أقيمت مكان القبر الذي يعتقدون أن المسيح دفن به حتى رُفع وقام من الموتى بعد ثلاثة أيام) شرارة أدت إلى اندلاع الحروب الصليبية التي انتهت إلى هبوط الشرق وصعود الغرب.

د.. ومع أن أبى الطيب المتنبي كان في مصر في عصر كافور الإخشيدي فإن قرب العهد بالفاطميين يذكّر ببيتين من الشعر قالهما المتنبي عن المصريين.

أغاية الدين أن تُحفوا شواربكم.. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

والثاني:

وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنهم ضحكً كالبكا

وهذا البيت الأخير أكد عليه شاعر النيل حافظ إبراهيم المتوفى 1932م إذ قال:

وكم ذا بمصر من المضحكات.. كما قال فيها أبو الطيب

وهكذا امتد وصف المتنبي للمصريين إلى أن كرره وأكد عليه شاعر النيل بعد ألف عام.

وهو أمر يدعو إلى الدهشة والتساؤل، ألم يمر الزمن على مصر طوال ألف عام حتى يكرر حافظ إبراهيم نفس بيت الشعر الذي ذكره المتنبي منذ أكثر من ألف عام.

(للدراسة بقية)

• القاهرة

ماذا يجري في مصر (8)

ماذا يجري في مصر (7)

ماذا يجري في مصر (6)

ماذا يجري في مصر (5)

ماذا يجري في مصر؟ (٤)

ماذا يجري في مصر (3)

ماذا يجرى في مصر (2)

ماذا يجرى في مصر (1)

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading