مضى وقت طويل نسبيا عن آخر مساهمة في عرض بعض حلقات من مسلسل الآلام اليومية التي يعيشها اللبنانيون العاديون في وطنهم والتي باتت اقرب الى السوريالية والكوميديا السوداء.
واذ اصبح مكررا ومملا تعداد الازمات التي تعصف باللبنانيين والمقيمين على ارض لبنان، ورصد تداعياتها القهرية على جميع مرافق ومناحي الحياة اليومية والتفصيلية، الا ان حلقات جديدة تتناسل، فاتحة زواريب مظلمة في رحلة الآلام التي لا تنتهي. خصوصا حين تتحول الدولة من دولة فاشلة الى لا دولة او دولة مضربة عن العمل او بالكاد تعمل، حكومة وبرلمانا وادارات وقضاء وموظفين. علما ان قبائل السلطة مازالت تعمل باسلوب التناتش والتنابذ والتناحر والتمذهب في البحث عن الطرائد والغنائم والهواجس حين يعجز اطرافها عن التحاصص.
ويتصاعد منسوب الغضب والقلق والتوتر عند اللبنانيين في سجنهم الكبير، لاكتشافهم ان دروب الهجرة والهروب الطوعي التقليدي بدأت تتضاءل امامهم.
فقد اضيفت ازمة الباسبورات الغير مسبوقة الى ازمات الغذاء والدواء والكهرباء والمحروقات والتربية والصحة والودائع وانهيار الليرة والاجور والمرافق والخدمات العامة. وازدادت صعوبة الحصول على تأشيرات وعقود عمل دسمة قي الخارج لغير ذوي الاختصاص البارز والمهارة النوعية، مع تراجع وضمور في تقدير قوة العمالة والجدارة اللبنانية، بعد ان كان تميزها يشكل مرآة لتقدم الجامعات اللبنانية و تنوع وحداثة الحياة الاجتماعية، وغنى وانفتاح ثقافي في اكثر من اتجاه. وزاد من صعوبات الهروب، تفاقم الازمات السياسية والاقتصادية وصعود اليمين الشعبوي في اوروبا والعالم عموما، والذي ساهم فيه انتشار الوباء، والحرب الروسية على اوكرانيا وتداعياتها الكارثية على الطاقة والغذاء والبيئة والامن، معطوفة على التحولات الجيوسياسية الكبرى، خصوصا في الباسيفيك وعموم اسيا وبعض افريقيا. فقد تعملق المارد الصيني وتقدم مشروع الزعيم القوي شي جيبينغ المتعلق بطريق الحرير الجديد والحزام والمتمدد باتجاه القمر والفضائين، الكوني والسبراني ( =من المفيد قراءة طريق الحرير لبيتر فرانكوبان). كما تغيرت طبيعة التحالفات والصراعات ومقاربة القضايا الكبرى في الشرق الاوسط وخصوصا في منطقة الخليج الذي يشهد تحولات جيوسياسية كبيرة مع تصاعد الصراعات الاقليمية وتوسع افكاك التماسيح الثلاثة ايران واسرائيل وتركيا، وتلكؤ وربما تواطؤ الولايات المتحدة الامريكية والغرب عموما. وقد ساهم التردد والتأرجح الغربيان في تعثر الربيع العربي، خصوصا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، واستطرادا في لبنان الذي شهد وما يزال نسخته الخاصة من هذا الربيع على شكل انتفاضات وطنية واجتماعية بالنظر لموقعه الجيوسياسي الخاص الذي تحول من نعمة في نصف مئويته الأولى برضى ورعاية عربية ودولية جعلته يحتل المركز السابع عالميا في الناتج الفردي الى نقمة في نصف مئويته الثانية اوصلته الى نفس المركز مقلوبا، بعد ان تحول الى ساحة للحروب والصراعات والتجاوزات والاحتلالات على انواعها في اعقاب هزيمة سنة ١٩٦٧، ساهمت انقسامات عشائره السياسية واقلوية قبائله الطائفية في استجلاب وتوسيع معظمها، وصولا الى احتلال وهيمنة ايرانية بالواسطة. ويزيد من خطر الهيمنة الايرانية السيادي والكياني والعروبي، انها تستحضر في المنطقة الصراعات والاحقاد والخلافات التاريخية والمذهبية، وتتم بواسطة فئة لبنانية أساسية مدججة بفائض قوة السلاح والايديولوجيا.
حين صنف البنك الدولي الازمة الاقتصادية والمالية واللبنانية كواحدة من اسوأ ثلاث ازمات حدثت في القرنين الماضيين، ظن كثر ان في ذلك نوعا من المبالغة، ذلك ان مخيلتنا مليئة بالدول الفاشلة والشعوب البائسة والمقهورة في افريقيا وغيرها والتي لا تشبهنا في الظاهر والمظاهر، خصوصا ان لنا في بعضها جاليات مهمة وفاعلة. الا ان ما يشهده اللبنانيون من ويلات على جميع الصعد يؤشر لصدقية هذا التصنيف، حتى وان لطفت المظاهر السياحية والاحتفالية والترفيهية المرحب بها من نتائج التصنيف.
البنك الدولي والمؤسسات والقوى الدولية يحملون السلطة الفعلية الفاجرة والطبقة السياسية الفاسدة والنخب عموما، بما فيها النخب المصرفية المسؤولية في التسبب في الازمات وفي استفحالها، واستطرادا في الفشل في إدارتها وانجاز الاصلاحات البديهية التي لا بد منها والتي بات الكل يحفظها عن طهر قلب.
ومع ذلك، فلا احد يتوقع ان يحل المجتمع الدولي محل اللبنانيين في انقاذ بلدهم. فالدول لا تعمل صليب وهلال احمر، بل تحفزها وتحركها المصالح الباردة، وتميل للسيطرة عموما.
ومع اننا لا نشك بتاتا في العلاقة الخاصة التي تربط فرنسا والفرنسيين بلبنان واللبنانيين، الا اننا شهدنا كبف ان حراك الرئيس ماكرون من اجل لبنان في اعقاب جريمة المرفأ المروعة ادى لاعادة تعويم الطبقة السياسية ومراعاة مطالب الحزب المسلح، كما ساهم عمليا في فرملة اندفاعة الانتفاضة التشرينية التي استعادت، على وقع هول الانفجار وردود الفعل الشعبية المتضامنة مع بيروت واهالي الاحياء المدمرة، بعض الحشود على شعارات سياسية وسيادية، محملة الحزب الالاهي والتحالف الذمي واركان السلطة الحاكمة عموما المسؤولية الاجمالية عن تدمير نصف العاصمة. لم يحم ماكرون الصمود النسبي الاجباري للرئيس الحريري بوجه الرئيس عون وباسيل ومن خلفهما حزب الله في تشكيل حكومة مهمة، وضع هو ومعاونوه اسسها الاصلاحية، بل راعى الرئيس عون وتياره وحزب الله ودعم مجيء الرئيس ميقاتي الاكثر تكيفا وتدويرا للزوايا. علما ان ذلك ترافق مع انكفاء معظم الاحزاب والمكونات، خصوصا المسيحية منها، بما فيها المستقلة عن الصراع الحكومي، وهو موقف اقلوي، لم يكن ولن يكون بلا أثر على صراع القبائل اللبنانية.
وها هو هوكشتاين يدير موضوع الترسيم، بما يحفظ مصالح الغرب واسرائيل ويراع عمليا ما امكن حزب الله وايران في الوقت الذي تجهد فيه اوروبا ومقاولوها لانقاذ الاتفاق النووي، وان كان على حساب العرب و على حساب لبنان الفاقد للسيادة.
وحسنا فعل الخليجيون وفي المقدمة السعوديون والاماراتيون، حين اظهروا العين الحمراء للرئيس بايدن اللاهث وراء زيادة انتاج النفط والغاز لتخفيف الازمة الزاحفة على اوروبا وعلى الاقتصاد العالمي مع استمرار حرب بوتين على اوكرانيا، بعد ان بالغ بايدن وحزبه والغرب عموما في استثمار جريمة قتل الخاشقجي، علما انهم يغضون النظر عن مذابح وجرائم اسرائيل، بما فيها جريمة قتل الاعلامية الاميركية الفلسطينية شيرين ابو عاقلة ومهاجمة موكب الجنازة بشراسة امام اعين العالم أجمع، كما يغضون النظر عن جرائم وارهاب الانظمة الديكتاتورية والمستبدة حين تكون مصالحهم محفوظة. ولا ننسى جرائم الحصار والقتل والتدمير التي اودت بحياة الملايين في العراق وسوريا وتشيشنبا وغيرها. علما ان اداء القوى الدولية الكبرى عموما تجاه جريمة المرفأ المروعة باعث للشبهات، وعموما لا نراهم يفعلون شيئا حيال جريمة الافلات من العقاب والتي يقع لبنان واللبنانيون ضحية بارزة لها. وسيكون مثيرا رصد تعاطي الادارة الاميركية مع محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي بكافة ابعادها.
رغم اننا لم ننظر للانتخابات النيابية الا كمحطة مواجهة سياسية في سياق معركة انقاذ البلد المتداعي سياديا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، خصوصا اننا ادركنا مبكرا انها ستكون غير متكافئة وشبه ديمقراطية مع وجود فائض القوة الفئوية وفائض المال، وفائض الشخصانية، فضلا عن فائض من المذهبية في القانون الانتخابي، الا اننا رحبنا وحتى انتعشنا وان بحذر، بنجاح غير مسبوق لمجموعة تشرينية عابرة للمناطق والطوائف، وبازدياد الوزن السيادي، الحزبي والمستقل، في البرلمان، وبافقاد حزب الله والحلف الممانع الاكثرية التي غنمها في انتخابات ٢٠١٨.
وبالنظر لاداء النواب التغييريين والنواب السياديين والمستقلين في انتخابات رئاسة المجلس ونيابة الرئاسة وهيئة المكتب واللجان وبتكليف رئيس حكومة، فان حذرنا كان للاسف صائبا. فقد بدا الاداء السياسي الاجمالي على الضفة المعارضة ركيكا ومفككا عند البعض، وانتهازيا وطائفيا وحتى قبائليا عند آخرين، مما بدد وهج الانجاز النسبي في الانتخابات.
هل نأمل باداء مختلف من أعضاء المعارضة البرلمانية، وخصوصا من الناشطين التغييرين الذين راهن عليهم كثر في الوطن وفي الدياسيورا؟ ام سيغذي الجمود الفكري والنرجسية الشخصانية العقلية الشعبوية والموروثات القبائلية، ونتابع مسلسل الخيبة والسقوط التي يستفيد منه حزب الله ورعاته؟ما سيذكرنا بعجز “طائفة اليسار والمستقلين” في مواجهة ازمة الانتفاضة الآذارية حين دخل قادة احزابها الطائفية في نفق السلطة وغنائمها بعد ان سئموا من الاغتيالات والتضحيات التي زادها تفاقما اختلال موازين القوى في المنطقة.
المرحلة بالغة الأهمية والحساسية ولا تحتمل ترف التجربة والصفاء الفارغ الذي يؤدي لالغاء الآخر والغاء الدور. واذا كانت المرحلة لا تحتمل مبالغات وانتفاخات واسقاطات، فهي لا تحتمل تحول خطوط التواصل والحوار الى مراهنات، اذ تتشابك المصالح الاقليمية والدولية في المنطقة في عالم متغير وملتهب ومتدحرج. في وقت يدير فيه حزب الله ويحجز موضوع الترسيم البحري وانتخابات الرئاسة ويتلاعب بالحرب والسلم في خدمة راعيه الاقليمي، وربما يتهيأ فريق الحكم العوني المتراجع لفتاوى وفتن دستورية وربما طائفية للتمسك بالسلطة وغنائمها في بلد لم يعد يحتمل دفشة.
انتخابات الرئاسة ليست نهاية المطاف، ولكن مع وصول البلد الى الجحيم والعصفورية في عهد الرئيس عون، فان هذه الانتخابات تعتبر مفصلية في المواجهة الوطنية للحفاظ على نهائية الكيان وعروبته وميثاقه الوطني والعمل على استعادة سيادة الدولة في لحظة مفصلية في المنطقة.
لذا نرى ضرورة العمل ضمن لاءات ثلاث.
لا لرئيس من خط الممانعة
لا لرئيس بلا لون ولا طعم ولا برنامج، سيديره في نهاية المطاف حزب الله القوي من الخلف.
لا للفتاوى الدستورية غب الطلب التي تؤدي للانقلاب على الدستور، والذي على اللبنانيين التمسك به بأسنانهم، ذلك انه سلاح الذين لا سلاح لهم.
وفي النهاية، فان معركة بعنوان سيادي وطني وبشق اقتصادي اصلاحي هي لبست حاصل جمع أصوات برلمانية فقط، بل تخاض في عموم البلد وقواه الحية وفي المجالين العربي والدولي، وتجنح اولا واساسا نحو استحضار اصحاب المصلحة الذين يعانون من تداعيات الهيمنة والانهيار على كامل يومياتهم، وهم في هذه الحالة السواد الأعظم من اللبنانيين بعد انهيار الطبقة الوسطى وتوسع شرائح البؤس والذل والحاجة. وهذا يتطلب مواجهة تفصيلية وموضعية في كل المرافق والقطاعات، وعدم الاكتفاء بالمعارك والعناوين الكبرى، وبالمناظرات والمرافعات التي قد تتحول الى ندب وكوميديا مؤلمة، خصوصا اذا ما دخلنا في الارتطام الذي سيتحول الى فوضى مفتوحة على كل الاخطار.
talalkhawaja8@gmail.com