Miلا شك بان الازمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها لبنان ترخي بظلالها الثقيلة على العائلات والاسر الجنوبية، مثلها مثل باقي الاسر في لبنان.
بالاخص اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان الجنوبيين بالأعم الأغلب يتكئون في معيشتهم ومصدر رزقهم على موردين اساسيين: الوظيفة في القطاع العام ( التعليم – القوى الامنية – الادارات العامة.. ) أو الزراعة والمصالح الصغيرة المنتشرة في قرى ودساكر الجنوب.
وهذا يعني ان ثقل الازمة الاقتصادية والضائقة المالية يصيب الشريحة الاوسع في الجنوب. فتدني رواتب موظفي القطاع العام الى مستويات غير مسبوقة اصاب هذه الفئة باضرار كبيرة. يقول مثلا الاستاذ الثانوي أ. مشيمش ان « الراتب الذي كنا نتقاضاه كأساتذة ثانويين لم يعد له قيمة شرائية تكفي لايام معدودة. فبعد ان كان الراتب يقدر بحوالي 2200 دولار اميركي، هو الان بحسب سعر الصيرفة لا يتجاوز 137 دولار (بعد 33 سنة خدمة).
« وهذا المبلع الضئيل لا يكفي ثمن وقود للسيارة شهريا للذهاب الى الثانوية التي تبعد عن موقع سكني 10 كلم، وهذا بدون الحديث عن الاعطال التي قد تصيب السيارة، فالدخول الى الكاراج ولو لامر بسيط هو بحد ذاته كارثة ».
وحين سؤال الاستاذ مشميش، وهو رب عائلة مكونة من اربعة افراد، عن الوسائل والطرق التي يتبعها لتدبير امره، يجيب: « لا شك ان حياة الاستاذ وكذلك موظف القطاع العام صارت مأساوية الى حد كبير، وبتنا نعيش حالة من الفقر والعوز! كنا قد ” حوّشنا ” مبلغا صغيراً ادخرناه ولكن، مع طول فترة الازمة، فقد استنزفناه على اخره، واكثر من ذلك بدأنا نبيع ما كان من الكماليات ( ذهب – اثاث – سيارة للعائلة.. ). الا ان كل ذلك بالكاد يكفي لتلبية الاساسيات الضرورية من مأكل ومشرب مع امور باتت ضرورية مثل إشتراك الكهربا، والانترنت وما الى ذلك.
وبعد ان اطرق نظره الى الارض والغصة تكاد تخنقه قال الاستاذ مشيمش: ولولا « الدعمة » الخارجية التي تأتيه من اخوته المغتربين، وبشكل متقطع، كنا وصلنا الى ما لا يحمد عقباه من الفقر والضيق. ويستطرد هنا للقول: « كيف تتصور حال استاذ يقف في صفه وامام تلاميذه ليؤدي واجبه التعليمي فيما عقله وتفكيره وجل همه قارورة الغاز التي اخبرته زوجته انها على وشك الانتهاء وهو لا يملك ثمن قارورة جديدة والتي بلغ ثمنها 300 الف ليرة (11% من الراتب) »؟ وعن المستقبل الذي ينتظره قال: « لا اخفي عليك انني افكر جديا بالهجرة وانتظر اي فرصة متاحة للخروج مع عائلتي من هذا الجحيم الذي نعيشه ».
فاذا كان هذا حال الاستاذ الثانوي والذي يعد راتبه مقبولا نوعا ما بالقياس الى الموظفين الادنى رتبة (جيش – قوى امن داخلي – بلديات… ) والذين يصل حجم رواتبهم إلى ثلث راتب الاستاذ الثانوي، فعليك حينئذ تصور حجم المأساة التي يعيشها هؤلاء.
وفي مطرح اخر ،يقول السيد أ. بدر الدين، وهو صاحب عمل حر، حيث أنه يعمل كتاجر متنقل يقصد الصالونات النسائية ويبيعها مستلزمات المهنة التي تعتبر اشياء كمالية نوعا ما: « أوضاعنا تدهورت كليا. فبغض النظر ان مهنتنا اصيبت بمقتل نتيجة الارتفاع الجنوني للاسعار لان معظم السلع التي نتعامل بها هي سلع مستوردة من الخارج، مما يعني ان اسعارها زادت ما لا يقل عن عشرة اضعاف، وهذا ما أثر بشكل كبير على عمل معظم الصالونات. وانا اعرف الكثير من الزبائن الذين اقفلوا صالوناتهم ولم يتبقَّ في الجنوب الا القليل القليل القليل، بعد نقل اعمالهم الى داخل منازلهم هروبا من دفع الاجارات والمستلزمات الاخرى »!
يضيف بدر الدين: « امثالنا من اصحاب المهن الكمالية هم اكثر المتضررين، واوضاعنا صارت « زفت ». فلم اعد اخرج الى العمل الا يوما واحداً في الاسبوع (لتوفير البنزين). وعند طرح السؤال البديهي « كيف تعيش؟ وهل لديك اقارب في الخارج؟ » اكتفى بالاجابة المختصرة والتي تختزل كل معاني البؤس: « ما عندي حدا… اما كيف عايش،، فخليها ع الله »!
اما ع. ريحان، المزارع الذي كان يملك اربع بقرات وخيمتين زراعيتين ورخصة لزراعة « الدخان » ( التبغ )، فيلخص معاناته بكلمات قصار تعبر عن حجم الوجع والالم: « بعنا البقرات بعد ان صار ثمن العلف اكبر من انتاج الحليب، الخيم الزراعية لم تعد تنتج بسبب تكاليف الشتل وادوية المبيدات وغيرها، والدخان بخسّر… وصرنا ننطر اعاشة من هون ومساعدة من هونيك »!
هذه عينات عن حجم الكارثة التي يعيشها معظم الاسر الجنوبية. الموت البطيء يتسلل الى داخل الكثير من البيوتات من دون ان يحس بها وبمعاناتها القيمون على القرار الجنوبي، لانهم مشغولون اما بمشاريعهم وتأمين متطلبات الحياة لجماعاتهم واتباعهم، واما مشغولون بالحفاظ على مكتسبات عائلاتهم وكراسيهم.