كانت المسيرة الطلابية متجهة نحو ساحة كرامي في طرابلس في الاسابيع الاولى للانتفاضة، حين توقفت فجأة على البولفار امام فرع مصرف لبنان.
وكانت هذه المسيرة قد انطلقت من المدينة الجامعية في « المون ميشال »، وهي تضم بضع مئات من الطلاب وعشرات الاساتذة بعد ان عقدوا ندوات صباحية حوارية في حرم كلية العلوم، ركز خلالها المتكلمون على ضرورة استعادة الدور الطلابي النقابي والمستقل في الحياة الجامعية والمدنية اللبنانية بعد طول سبات. وفجأة تحولت الهتافات الطلابية من المطالب الجامعية والشبابية الى شعارات وشتائم ضد رياض سلامة وجماعة المصارف. وكادت ان تتحول المسيرة الى عملية اقتحام فرع مصرف لبنان، خصوصا حين انضم لها حشد من المواطنين الغاضبين، لولا تدارك وحكمة بعض المشاركين. فاكتفى الجميع بدقائق اعتراض امام المصرف قبل ان تتابع المسيرة وجهتها باتجاه ساحة الانتفاضة، والتي تحولت الى ساحة الجذب الرئيسية في المدينة وعموم الشمال.
لم يأت انتقال بعض الغضب من السلطة الفاسدة والفاجرة والمجرمة نحو مصرف لبنان والمصارف عموما من فراغ، بل ساهمت في رفع منسوبه عوامل عدة اهمها:
1-عدم تحديد الفساد السياسي والتلاعب بالدستور والتفكك السيادي المرتبط بالتواطؤ و الخضوع لفائض القوة المسلحة الفئوية والتبعية كسبب رئيسي للأزمات والانهيارات واستفحال الفساد المافيوي، خصوصا انه أدى لعزل لبنان عن محيطه العربي والدولي. ولبنان لطالما شكل جسرا حضاريا يربط بين اوروبا والغرب عموما والشرق والعرب خصوصا سواء عبر مرفئه الذي دمر ومطاره الذي يختنق من القهر، سواء عبر اثيره الذي اصبخ مسموما ثقافيا وبيئيا.
٢- سمحت black hole السياسية باختراق المنتفضين، عبر الترهيب والسلبطة اولا، وعبر التطييف والتخوين ثانيا، وعبر محاولات الاحتواء وصولا للاختراق الامني وتوجيه الغاضبين نحو العنف خصوصا في وسط بيروت ثالثا.
وقد ساهمت مجموعات وشخصيات واحزاب غير سيادية بتسهيل هذا الاختراق، خصوصا حين اغفلت الجانب السيادي وركزت على موضوع الفساد، ووجهت النشاطات باتجاه مصرف لبنان وشيطنة رياض سلامة، مما سهل ابتزازه من قبل السلطة وخصوصا حزب الله والجماعة العونية.
٣- تعامل اصحاب وجمعية المصارف مع ازمة السيولة والأزمة المصرفية عموما بطريقة مذلة ودنيئة وحتى خسيسة مع المودعين العاديين، بعد ان حولت للنافذين والاقوياء اموالا للخارج، مما ساعد في اختراق الحراك الغاضب وتوجيه بعض المتظاهرين نحو تكسير فروع المصارف، خصوصا في ايقونة الانتفاضة طرابلس.
هكذا هوت صورة المصارف العملاقة وتحولت لدكاكين رغم مباني اداراتها الشاهقة، علما ان تعاميم وقرارات البنك المركزي، وفي غياب مقصود لقانون كابيتال كونترول، ساعدت هذه المصارف على امتصاص جانبا من ازمتها عن طريق هيركات مارسه المودعون عمليا، ووصل مؤخرا لحلاقة عالناشف، رغم صراخ المسؤولين المنافقين بعدم المس بالودائع.
اما الايجابية النسبية للتعميم ١٥٨ بالافراج عن بعض الفريش دولار، فقد شوهتها الاستثناءات العشوائية والاستنسابية، الغير عادلة والغير دستورية، فضلا عن مقاربة ملتبسة لادارات المصارف في تطبيق التعميم مما جعل التردد والحذر قويا عند المودعين.
لا نرغب بتحميل المصارف والمصرف المركزي خصوصا اكثر مما يجب، علما ان رياض سلامة يتعرض للابتزاز من السلطة وخصوصا من طرفي ذمية مار مخايل. كما تتعرض بعض ممتلكات المركزي كشركة الميدل ايست لحملات مغرضة، علما انه رغم نجاحها الاجمالي في مداراة الازمة وفي الحفاظ على موظفيها، الا انها تركت اصحاب مكاتب السفر تنهش في الاموال المستعادة(refunds) والتي دفعتها الشركة بالفريش دولار عن تذاكر لم يستعملها اصحابها بسبب اغلاق المطار.
وقد هدد جميل السيد، بالنيابة عن مشغليه، الحاكم بالاسم من اجل عصر ما تبقى من اموال الناس، ولاقاه رجل الظلام جبران باسيل وباقي اصوات التهويل، مستغلين آلام ومآسي المواطنين التي تسببت بها سلطة لا وطنية ولا دولتية للبلد من مثلث بعبدا،عين التينة والسراي برعاية حارة حريك.
ومع ذلك لا يستطيع الحاكم المتراجع دائما عن قراراته تحت الضغط والتهويل، عبر مؤتمراته الموسمية وارقامه التبريرية ان ينفض يديه من حفلة غرز السكاكين التي تمزق جيوب المواطنين، خصوصا مع استحضار أقطاب Haute couture مقصاتهم لتفصيل واستعراض البطاقات الانتخابية التمويلية والتموينية، بعد ان ملؤوا مستودعاتهم وجيوب اتباعهم من التجار عبر استنزاف وهدر المليارات تحت مسمى الدعم الكاذب. علما ان التهريب المحمي والمنظم والمستمر زود اقتصاد النظام السوري بالمصل بعد ان زود مجرميه بالنيترات القاتلة على ما يقال.
ورغم ان الحاكم حذر مرارا من خطورة عدم دفع اليورو بوند، كما حذر سابقا من موضوع السلسة والتوظيف العشوائي وكثير من السياسات الفاشلة، الا انه سرعان ما كان ينضوي في الركب ويتكيف مع عملية الاستنزاف المالي، خصوصا في تحميل المودعين والمواطنين عموما اكلاف الازمات.
ان الحافة المالية الخطيرة التي يقف عليها البلد والتي يسمونها الاحتياط او التوظيفات الالزامية، باتت تتطلب اوسع استنفار ممكن من قبل جميع الحريصين على بقاء هذا البلد، سواء كانوا في المعارضات الشعبية او في المعارضات الرسمية. فلا يجب انتظار تشكيل حكومة او انتخابات او تدخل دولي او اي عوامل أخرى، ذلك ان تجفيف هذا الاحتياط تحت الضغط والتهويل، فضلا عن انه جريمة بحق المودعين المقهورين، فانه ينهي القطاع المصرفي ويوجه ضربة نهائية لإمكانية نهوض الاقتصاد المنهار.
ومع انه كان يجب اخذ المواقف العملية منذ بدء الازمة، الا انه خير لنا ان نتحرك متأخرين من ان نبكي لاحقا على ملك اضعناه بتلكؤنا.
والمواجهة ستكون شرسة وصعبة وفيها عض اصابع وصرير اسنان. اذ سيكون علينا اجبار الحاكم، مع قف نزيف الاحتياط، على تحرير جزء من اموال المودعين بما يتعدى التعميم ١٥٨ الذي يشطر المودعين استنسابيا، وبما يتجاوز ايضا مهزلة التعميم ١٥١ الذي يجبر المودعين عليه عمليا بسبب الحاجة او لإنعدام الثقة، وبما يقلص من الفئات التي تحتاج للمساعدة . كما يجب ان يجري الحوار بين المعارضات( التي تكون قد وضعت تصورا مشتركا وخطة منسقة) وبينها وبين المجتمع الدولي مباشرة حول تطوير سبل مساندة الفئات الاكثر حاجة للصمود في هذه المرحلة الصعبة والخطيرة التي تمر بها المنطقة والبلد المخطوف.
لا يوجد دولة في لبنان، حتى ان الدولة العميقة مختنقة. في الواقع يوجد سلطة ومواقع نفوذ ومايسترو مسلح يقود الاوكسترا الابوكاليبسية الزاعقة. ولذا على المعارضات بجميع منوعاتها النقابية والمدنية والسياسية والشبابية خصوصا، فضلا عن النخب المتلكئة او المنكمشة داخل شرانق طوائفها وصومعاتها ان تأخذ دورها في الدفاع عن مرافق البلد المتداعية، وفي مقدمها المرفق المالي الذي قد يتهاوى بسببه معظم المرافق.
اي بكلمات قليلة يجب اقتحام حفل غرز السكاكين لمواجهة الضغوط على الحاكم وجماعة المركزي بضغوط مقابلة، علنا نستطيع اجتذاب جماهير الانتفاضة نحو هذه المواجهة المصيرية والمتعلقة بحياتهم اليومية، على صعوبتها بسبب التهويل والشعبوية.
طرابلس في ١٢-٨-٢١