في زغرتا هو “إبن بولس الشيخا المتعلم”، وأحد ناشطي « حركة الشباب الزغرتاوي » التي اسّسها الراحل سمير فرنجيه مع مرشد دحدح وجوزف العريجي وشوقي البابا وآخرين.
في طرابلس هو تلميذ « مدرسة الفرير » وصديق الكثير من الطرابلسيين من “مطعم الدنون” الى الجامعة اللبنانية في محلة القبة حيث امضى الكثير من وقته استاذا جامعيا ومديرا لقسم اللغة الفرنسية.
في بيروت هو المثقف والروائي الانيق، نديم الكتّاب والمثقفين، شعراءً وكتاب قصة واعلاميين واكاديميين.
من المقاهي كان يٌعرف، في طرابلس.
وقبل ان تنتشر المقاهي الحديثة كان جبور الدويهي من رواد « مقهى الاندلس »، حيث يجتمع من دون موعد ولا اتفاق اساتذة الجامعة، يقرأون الصحف، ويلمّعون احذيتهم في خلطة نادرة، في نفس المقهى، الى جانب المقاولين الذين ينتظرون دورهم لانجاز معاملاتهم في الدائرة التي تقع في نفس المبنى، وكان يمر في طريقه الى مقهى “البينكي”، مقصد المراسلين الصحفيين والاعلاميين، يلتقي البعض من بينهم من اصدقائه، قبل ان ينتقل الى مقهى ال“pain D’or” المختلف كليا عن شكل ووظيفة « مقهى الاندلس »، حيث يجد السكينة والتأمل في وحوه الطرابلسيين من الاصدقاء ويستغرق في الكتابة، حتى الظهر موعد العودة الى زغرتا.
كان مقدرا ان التقيه! فجمعني به اكثر من صديق مشترك، بداية ثمانينيات القرن الماضي، من سمير بيك فرنجيه الى نسيبه مرشد دحدح، الى الصديق جوزف العريجي، ومجلة « الشمال » التي كنت احد العاملين فيها والتي كانت تصدر باشراف الراحل سمير فرنجيه.
في زغرتا الكثير من الاصدقاء، ولكن من بين الذين رحلوا ولهم في القلب جرح لا يندمل، سمير بيك صديق العمر، والشاعر جورج يمين، والدكتور جبور، الذي تعمقت معرفتي به الى درجة الصداقة في الجامعة اللبنانية. وهو الذي اشار علي ذات يوم بان أدرس “الحكايات الخرافية”، بعد ان كنا نتسامر في مقهى الاندلس، واخبرته ان لدى جدتي لامي مخزوناً من هذه الحكايات، وبدأت أقص عليه بعضا منها، فكان يشهق، بعفويته المعهودة ويقول هذه قصة “القبعة الحمراء” وهذه قصة « ساندريون »!
وسألني هل جدتك ذهبت الى المدرسة يوما؟
فأجبته انها لا تتقن لا القراءة ولا الكتابة.
وسأل بدهشة اكبر من اين حفظت هذه الروايات، وممن سمعتها؟
فاخبرته ان في قريتنا كان هناك راوٍ، وهي كانت تجالسه وحفظت عنه الحكايات.
وخضعت لجلسة تحقيق تفصيلي عن الراوي وجدتي، وعلى الفور طلب مني ان اجعل من هذه الحكايات موضوعا لمذكرة البحث في دبلوم الدراسات المعمقة في علم الاجتماع.
وقال: ابحث عن الاصل والمصدر واجمع ما استطعت من هذه الروايات، وهكذا كان.
وبعد ان انجزت الدراسة طلب مني ان اشرح تفاصيلها لطلاب القسم الفرنسي في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية وكان في كل مرة يريد ان يحث طلابه على التعمق في الرواية كتابة ونصا يستعين بي لاعيد شرح كل الخطوات التي نفذتها في بحثي الجامعي.
شغفه في الرواية وبحثه في التفاصيل، لم يفارقه! فكانت الرواية همه وهاجسه في السنوات الاخيرة، فابدع في السرد ولم يهمل تفصيلاً.
فتذكر ان والدي الذي كان مدرسا في مدرسة زغرتا سنة 1958، وكان من مؤسسي الحزب التقدمي الاشتراكي، وان “المدرّس الاشتراكي” جمع التلاميذ وصرفهم من المدرسة في اعقاب ما يعرف في زغرتا بـ”احداث مزيارة » (كما يذكر، بصورة روائية، في « مطر حزيران »!)
الهم الروائي، لم يثنهِ عن الهم الوطني. فكان الاتصال بيننا ليسأل في السياسة سؤال العارف المنتقد. وفي احيان كثيرة سؤالا يحمل في طياته استغراب المستهجن، مع ادراكه بأنني لا اعرف جوابا لسؤاله! ولكن الحديث كان يطول ويمر عبر سمير بيك وينتهي عند “عمي مرشد” هل اتصلت به سمعت منه آخر خبر؟
« اذا ما اتصلت احكي معه، وما تقول اني خبرتك »!
صديقي جبور: سأفتقدك!
منذ ايام كنت استطلع اخبارك وعرفت انك تصارع المرض طريح الفراش، لم اجرؤ على الاتصال بك! وأردت ان تبقى في ذاكرتي كما عرفتك في لقاءات جمعتنا في إذاعة الشرق، وفي اكثر من مقهى بيروتي، من الذين تعرفنا اليهم معا بعد التسعينات واتفاق الطائف، تنبض حيوية ودينامية وتشع ابداعا، ومبادرات وافكار تناقش وتساحل في السياسة وتعود الى ذاتك لتكتب الرواية من جديد.
جبور يا صديقي أبكرت الرحيل في عز العطاء!
رحلت، كنت انتظر رواياتك بشغف، وفي يقيني اني اعرف العديد من ابطالها. لم تخترع ابطال رواياتك، بل جمعتهم من الحقول التي نشأت فيها ودرست وامضيت وافنيت عمرك.
قد تجود الايام باساتذة جامعيين في كفاءته، ولكن من الصعب ان تمن علينا بروائي من عيار جبور الدويهي.
جبور يا صديقي، وداعا!
إقرأ أيضاً:
جبور الدويهى: أكتب رواياتى بغرض الاستمتاع وأشفق على من يتصور أن الأدب حامل هموم الدنيا