جبور الدويهى: أكتب رواياتى بغرض الاستمتاع وأشفق على من يتصور أن الأدب حامل هموم الدنيا

0

 

سائق التاكسى من المطار إلى الفندق، تحدث حول أمرين، الأول الحرب الأهلية اللبنانية وكيف تؤثر حتى الآن على اللبنانيين. فمن الصعب تلاشى الجرح بمرور الزمن. الثانى فيروز سيدة لبنان، على الرغم من أننى لم أر صورة لها معلقة فى أى ميدان أو قاعة أو مكتب، فهى تبدو كالهواء غير المنظور لا يمكن الاستغناء عنه، ولا نستطيع وضعه داخل إطار خشبى أو زجاجى. سألت السائق عن الروايات ــ حيث الصورة الذهنية عن اللبنانيين أنهم يقرءون كثيرا ــ فلم يُجِبْ، محاولا الحديث مرة أخرى عن فيروز. لكن أحد الأكاديميين الذى كان معنا، ذكر اسم جبور الدويهي؛ لأنه كان ضيف الشرف فى حفل تخرج الطلبة بجامعة القديس يوسف فى بيروت، مشيدا بكلامه المفيد.

 

فى تخطيطى للسفر إلى لبنان، قابلت جبور الدويهى، مع أصدقاء مشتركين بقناة سات 7، وكان وجوده فى المكان لافتا للانتباه وللحكايات وللطيبة أيضا. هو من أبرز الكتاب العرب، حصل على شهادة الدكتوراه فى الأدب المقارن من جامعة السوربون ويعمل أستاذا للأدب الفرنسى فى الجامعة اللبنانية. وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية فى سنتها الأولى 2008 بروايته «مطر حزيران». قام بترجمة عدة مؤلفات أدبية وعامة من الفرنسية إلى العربية. وله عدة مؤلفات روائية تشكل علامة بارزة فى تاريخ الأدب العربى، منها: «حى الأمريكان»، «مطر حزيران»، «شريد المنازل»، و«طبع فى بيروت»، وأصدر أخيرا عن دار الساقى روايته «ملك الهند».

 

• تعشق المكان «لبنان تحديدا، حتى وأنت تتحدث عن أوروبا وأمريكا»، وكذلك تحب التاريخ محاولا من خلاله رسم إسقاطات على الواقع الراهن. وفى روايتك «ملك الهند» الأخيرة ــ التى لا تتحدث عن ملك ولا عن الهند ــ نجد أيضا همك الدائم للحديث عن المكان وعن العائلة اللبنانية عبر جريمة غريبة يختلط فيها الفساد مع بيروقراطية عربية معروفة، مع تأكيد لمقولة «قيدت ضد مجهول» ككثير من القضايا الحقوقية التى نعيشها.. ما تعليقك؟

ــ قرأت أخيرا لأحد الروائيين كلاما مفاده، أنه لا يكتب كى يتسلى فأشفقت عليه بكاء حاملا هموم الدنيا أو هموم مجتمعه، فيما يبدو لى شخصيا فعل الكتابة الروائية بكل وضوح كمتعة لى ومحاولة إمتاع للقارئ. وفى سياق هذه «التسلية» المتمادية الخلاقة، والتى تعطى معنى كبيرا للحياة، تخيلت أحداث «ملك الهند»، روايتى الصادرة للتو، كباروديا أو محاكاة لعقدة بوليسية تدور فى أنحاء لبنان وتتجاوزه إلى مدن أخرى فى العالم.
ومن جهتى لا أسعى وراء فكرة أو رسالة بل أتبع هوى كتابتى والصور والسيناريوهات التى تلح على فأجد نفسى كما سائر الروائيين أتنقل بين الأمكنة ويطيب لى أن أكتب عن تلك التى أعرفها، أحس بها، أُسكن فيها شخصيات حكاياتى ويكون بين هذه الشخصيات وتلك الأمكنة علاقة حميمة فى أغلب الأحيان وتتعدد إشارات الانتماء للمكان بدءا باللهجة والمأكل والانتساب إلى الجماعة وتجاور جرائم الشرف مع بعض التحرر الجنسى وكل ذلك يلون الرواية ويمنحها أصالة وانغراسا مقنعا فى الواقع. ولبنان بلد متنوع متعدد الهويات الصغرى والجذور المحلية لجهة طوائفه وعشائره وريفه ومدنه واختلاف وضع المرأة فيه وأنماط اللباس والأسماء ودلالاتها وهو يصلح متحفا للعصبيات والتنويعات التى تغنى الأدب الروائى.

 

• وهل مسألة الاستمتاع جعلتك يوميا تجلس فى مقهى بطرابلس أو بيروت للكتابة، ولماذا الكتابة بعيدا عن المنزل، وهل يمكن للالتزام بوقت محدد أن يشكل لك حافزا أكبر للكتابة والإنجاز بسرعة أكبر؟
ــ اكتسبت مبكرا عادة الكتابة فى المقاهى، من سنوات الجامعة وتحضير الدروس محاطا بالأصدقاء، وعلى وقع التسجيلات الغنائية فارتبطت الكتابة ببهجة اللقاء، تتقاطع مع قراءة الصحيفة والانصات للأخبار وحركة الشارع. هكذا وجدت نفسى خارج البيت عندما كان البيت مكتظا بالأهل والأشقاء لا أجد لنفسى فيه فسحة كافية وبقيت أسعى إلى الخارج حتى عندما صار البيت فسيحا. لا أجد تفسيرا «نفسيا» لهذه الرغبة لكنى ألاحظ فى الواقع أنى كلما ابتعدت عن البيت زادت حماستى للكتابة. أما الالتزام بمواعيد يومية محددة، وفيما يخصنى، لا أكون منتجا إلا بين العاشرة صباحا والواحدة ظهرا فاعتقد أنه سلوك محفز على الرغم من اعتقاد ما بأن الروتين يؤثر سلبا إلا أننى مقتنع بأن الجلوس للكتابة فى وقت محدد ويومى من دون استثناء خير سبيل لاستخراج أفضل ما لدينا نخطه، وكما يقول أحدهم عليك الجلوس كل يوم؛ لأن الفكرة قد تحضر وتجدك غائبا.

 

• لكن زمان كانت المدينة تشكل محور بعض الروايات، الآن المدينة أصبحت ذات «عولمة» فالأمكنة العربية والإسلامية التى يختلط فيها الفقر والتهميش مع الإرهاب نجدها أيضا فى مدن أوربية، المدن فقدت هويتها أيضا.. 
ــ هناك نظرية قديمة، ماركسية الملامح، تفيد أن الرواية نوع مدينى بورجوازى يعبر عن خيبة الفرد وهزيمته. إنه كلام مغرٍ يتقاطع مع واقع الرواية كما تطورت فى القرنين التاسع عشر والعشرين وحتى أيامنا هذه. لكن العالم يشهد تحولات لا سابق لها فبات الكلام يدور حول «القرية الكونية» وتمدد المدن بثقافتها وانماط معيشتها إلى بقع واسعة من الضواحى ليتحول الريف التقليدى مكانا هامشيا مهدد بالتصحر. والرواية مثلها مثل سائر النشاطات الفنية الإبداعية تذهب وتنتشر فى كل اتجاه، كسرت الحواجز وصارت تنبت فى أمكنة لم تكن متوقعة.

 

• فى روايتك «طبع فى بيروت» أخترت أن تدخل إلى عمق التاريخ اللبنانى والعربى من خلال مطبعة. لماذا؟ وكيف ترى ذلك التاريخ وتأثيره حتى الآن على الوضع الراهن؟ تلك المطبعة «كرم إخوان» كانت مطبعة صاعدة، تطبع كتبا عظيمة فى الأدب والسياسة وكذلك تطبع الجرائد الكبرى حتى وصل الحال بها ــ عبر الورثة ــ إلى تزوير العملات الأجنبية هل تقصد أن تكون الرواية مرآة – أو إسقاطا ــ للبنان الآن؟ وفى تلك الرواية يبدو أنك تنصف الوجود السورى فى لبنان فى تلك الفترة عكس التيار السائد.. هل هذا صحيح؟
ــ يمكن تبيان التحولات فى كل مجال والمطبعة مكان متحرك مادامت تنتقل عبر السنين بين أحياء بيروت وتواكب التقنيات الطباعية من الصف اليدوى للأحرف إلى الطباعة الرقمية الأكثر تطورا وهذا التأقلم السريع مع أشكال الحداثة وتقنياتها هو من ميزات بيروت. وقد عرفت العاصمة اللبنانية أزمنة متقلبة، أزمنة رخاء وسنوات من العنف الأعمى أحيانا، فترات وصاية أجنبية واستقلال متعثر، ازدهار وأيام انكسار وكل ذلك يظهر فى المطبعة ونشاطها وشخصياتها وصولا إلى التخصص الطائفى فى الوظائف الطباعية كما هى الحال فى لبنان عموما. أما هجرة عائلات سورية الأصل إلى بيروت ومساهمتها فى نهضتها فحقيقة تاريخية لا جدال فيها.

 

• تقول دوما إن لبنان على الرغم من أنه صغير لكنه مركب ومعقد، متحف للحداثة وللقدم، فيه كل شىء. فيه صراع هويات بالولادة. فى أحد الحوارات قلت جملة بديعة: إنك تتغلب على الهويات المتصارعة بداخلك بالسخرية.. كيف؟ وهل يمكن أن نوصف روايتك «شريد المنازل» بأنها سيرتك الذاتية؟
ــ فى اعتقادى أن هذا التنوع اللبنانى مصدر غنى للأعمال الروائية والروايات الأدبية التى تتخذ من المجتمع اللبنانى خلفية لها وإطارا ووسيلة للتجوال على هذا التنوع والتعرف عليه خارج لغة الخشب وخطب التآلف الرسمى، كما تسمح للقارئ ــ وقبله للكاتب ــ أن يضع مسافة مع تلك الانتماءات الطائفية والمحلية وأزعم أن الشفاء من تلك الهويات يأتى عبر السخرية والخفة وهذا ما أحاوله فى الغالب. بالطبع لا يمكن القفز فوق المآسى التى يتسبب فيها صراع العصبيات، وهذا ما دخلت إليه رواية «شريد المنازل» وفيها بالتأكيد صفحات من ذاكرة شبابنا فى مدينة كانت تذهب إلى الحرب فرحة لتعود مضرجة بالدماء كسيرة.

 

• إذن لا يستطيع الروائى اللبنانى الهروب من قصة الحرب اللبنانية؟ فهل صارت الحرب متلازمة كالمقاومة والاحتلال بالنسبة للكاتب الفسلطينى؟ دكتور جبور أنت كتبت كثيرا عن الحرب اللبنانية ثم فى رواية «طبع فى بيروت» عدت للوراء زمنيا.. هل انتهيت مما عندك عن الحرب؟ وهل الكتابة فيها وعبرها تحررك من آلام تذكر الحرب؟ 
ــ أخشى التكرار وأصرف الوقت الكافى لاكتشاف نمط كتابى وموضوعات روائية أوفق فيها بين حاجتى للكتابة عما هو مألوف وقريب منى وبين ضرورة تقديم سيناريوهات متجددة. والصحيح أنك إذا كنت روائيا فى لبنان فلا مهرب من مواجهة النزاع الأهلى بأحواله الساخنة والباردة، على أن يكون حضور هذا النزاع طاغيا أو هامشيا فى كتابتك. ولا شك أن «اللبننة» باتت صفة متداولة (على غرار البلقنة ماضيا) يُشار بها ألى تشظى الهويات ومحاولات التآلف بينها، والأدب اللبنانى محكوم بالتعبير عنها بشكل من الأشكال كما الأدب الفلسطينى لا يمكنه تفادى الاحتلال والمقاومة.

 

• فى رواية «مطر حزيران» نجد أنك تتحدث عن نزاعات وقتل داخل الهوية الواحدة «المسيحية المارونية» وكأنها بروفة للحرب الأهلية اللبنانية وفى بلدتك زغرتا.. هل هذا صحيح؟ وحينما تتحدث عنها نجد مرارة فى تذكر ما حدث.
ــ نزاع الهويات البائس لا يقتصر على الهوية الدينية أو المذهبية بل يتعداها إلى الانتماءات العشائرية والعائلية والمناطقية وكلها قابلة؛ لأن تكون حاملة للعنف بمختلف أشكاله، وما أرويه حول بلدتى صورة مصغرة بغالبية تفاصيلها وظواهرها (الفرز السكانى، القتل على الهوية، التصورات المتبادلة حول الآخر…) لكل الحروب الأهلية وخصوصا تلك التى عصفت بلبنان فى منتصف سبعينات القرن الماضى.

 

• من قرأ روايتك «حي الأمريكان» يعرف أنه حي طرابلس السورى أكثر، الأمريكاني فقط لوجود المدرسة الإنجيلية. لماذا تقع فى غرام طرابلس؟ هل لانتمائها العربي أو لدفاعها عن القضايا العربية مقارنة ببيروت؟ ولماذا تشهد طرابلس كل تلك المتناقضات؟
ــ أحب طرابلس؛ لأنى تلقيت فيها دروسى ودرست فيها وأعيش فيها يوميا، ولو أنى أسكن فى بلدة مجاورة. هى مدينة سكنَتها نزعة الانتصار للقضايا العربية الكبرى من الوحدة مع سوريا فى ثلاثينيات القرن الماضى إلى الثورة الجزائرية فالقضية الفلسطينية فالدعوة الناصرية.. إلخ. وتبدو اليوم يتيمة الوضع العربى المتدهور. وهى فى المقابل مدينة معتدلة فى زمن التطرف الدينى على الرغم من بعض الحالات الفردية التى أصف نموذجا عنها فى رواية «حى الأمريكان».

الشروق

Subscribe
Notify of
guest

0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
Share.