ما كنتُ أسخر عندما أسمّي حزب الله أو زعيمه في بعض المقالات: الحزب المعصوم، والزعيم المعصوم. فهو منذ الثمانينات من القرن الماضي لا يعترف بخطأ ولا يعتذر عن تصرّف، بل ويتّهم كلَّ من ينتقده بشيءٍ، ولو كان أمراً ضئيلاً، بسوء النية والعمل لصالح الصهاينة. وإذا كان لطيفاً جداً اتّهمه بالعمل للأميركيين!
ولماذا نبعُدُ في التاريخ والأحداث؟
فقبل أشهر تحدّث الزعيم عن الاقتصاد المشرقي وضرورات اللجوء إليه، ولأنّ حسّان دياب وحكومته الإنقاذية العالية الكفاءة خشيت من فوات أو تفويت هذا المقترح العبقري وسط الانهيار الاقتصادي وظهور مساوئ الرأسمالية الاستغلالية، واكتشاف المعصوم ووليد جنبلاط في الوقت نفسه أهمية الزراعة، واقتصاد تبادل السِلَع بدون الحاجة للدولار “الصهيوني”، فإنّ حكومة دياب سارعت للاجتماع، وتأييد التوجه إلى الشرق، وبالإجماع!
طوال ثلاثين عاماً وأكثر على تعملُق الحزب وزعيمه في وجه اللبنانيين الأقزام، ما ترك الشباب “فضيلةً” إلاّ وارتكبوها في لبنان وسورية، وإلى الاتجار بالممنوعات، والسيطرة على المرافق والمؤسسات، والدخول إلى مغاور الفساد.. إلخ، باستثناء الفضيلة / الرذيلة التي ارتكبوها قبل ثلاثة أيام عندما ادّعوا على الدكتور فارس سعيد، وعلى وسيلةٍ إعلامية بتُهم الافتراء وإثارة النعرات الطائفية، ولا أدري ماذا وماذا أيضاً. الحزب نفسه يلجأ إلى القضاء بشخص أحد نوابه؟!
المفروض، وإن يكن الأمر غريباً واستثنائياً وجديداً، ويحدث لثاني مرّة (أوّل مرة كان الادّعاء على السيد علي الأمين من جانب محامين قريبين للحزب وأيضاً بإثارة النعرات الطائفية ومخالفة قواعد المذهب الجعفري، والمفروض أن القاضية غادة عون هي التي كان عليها أن تكتشف وتُدين هذه المخالفات للمذهب!) – المفروض أن يكونَ ذلك أمراً جيداً. فبدلاً من القتل أو التشهير والتهديد (وجيوشهم الإلكترونية تفعل ذلك منذ سنتين مع فارس سعيد ومع غيره)، يمكن اللجوء إلى القضاء، ولهم نفوذٌ كبيرٌ فيه. وقبل أشهر أصدر قاضٍ صوراني حكماً ضد السفيرة الأميركية، فتبسّم بعض الناس، وحاجج آخرون بأنّ ذلك ليس من صلاحياته. لكنّ فريقاً ثالثاً، وأنا منه، ذهب إلى أنّ ظاهرة استخدام القضاء، وإن كان فيها تسييس وتحيز، إلا أنّها تبقى أكثر إنسانية من الأساليب الأُخرى التي اعتاد الحزب على استخدامها!
المهم بعد الاستغراب الشديد لذهاب الحزب إلى القضاء، نقول إنّ لاستغرابنا سببين:
– الأول: أنّ الحزب ما احترم منذ ثلاثين عاماً وأكثر القضاء ولا القانون ولا لجأ إليهما. بل إنّ هناك كثيرين من المرتكبين من أبناء طائفته أو من غيرها، وسّطوه لتبرئتهم، فصاروا غير مرتكبين. ثم إنّنا نعرف جميعاً حالات ستر فيها الحزب وجهه، ودبّر قضايا لخصومه عبر المؤسسات القضائية أو الأمنية. وهناك قضايا منها العمالة لإسرائيل، ترك أصحابها يمرُّون منها ويفلتون من المحاسبة، مثل عامر فاخوري، وقال بعدها إنّه لم يوافق أولم يعرف!
– السبب الثاني: للاستغرب علتُهُ فساد القصّة من أصلها. فأنا أُتابع بيانات وتصريحات الدكتور فارس سعيد من سنوات، وأشترك معه في إصدار بعضها، وهي بياناتٌ سياسيةٌ واضحة المغزى والمرمى والحقيقة: رفع الوصاية الإيرانية عن لبنان، التوقف عن الخروج على القرارات الدولية وبخاصّة 1701 و1559، التوقف عن توريط لبنان في حروب المنطقة، التخلّي عن السلاح غير الشرعي، الخروج من المرفأ والمطار، والتوقف عن تسهيل التهريب عبر الحدود مع سورية، تسليم عضو الحزب سليم عياش إلى القضاء الدولي بعد أن أدانته المحكمة الدولية بقتل الرئيس رفيق الحريري وحكمت عليه. وهذه جميعاً ليست اتهامات بل هي وقائع صحيحة. ثم أين هو التحريض الطائفي وإثارة النعرات؟ هذه كلها ارتكابات سياسية وجنائية ثابتة من وجهة نظرنا على الأقلّ. وهي أضرت وتضر بالمصلحة الوطنية، وسبب من أسباب الخراب الحاصل في لبنان.
الدكتور سعيد لا يذكر الطائفة والطائفية على لسانه، ونصف الذين يوقّعون على بياناته هم من الشيعة، دون أن يُحسُّوا أنّهم بذلك يهينون طائفتهم. بل إنّ الإهانة الحقيقية للطائفة هي في توريط إيران والحزب للطائفة الشيعية، والتي يصرّ الحزب على التحدث باسمها، في كل هذه المصائب التي أنزلت خراباً هائلاً بالحياة الوطنية، وبالدولة اللبنانية.
إنّ الذي أثار ويثير النعرات الطائفية والمذهبية هو احتلال بيروت عام 2008، والخروج بمئات الموتوسيكلات بمناسبة وبدون مناسبة إلى شوارع المدينة في صورة الغزاة الفاتحين، والصراخ “شيعة شيعة” في وجه آلاف المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع بعد انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019، وتكسير عظامهم وإطلاق النار على أعينهم.
لماذا لم يلجأْ أحدٌ منا إلى القضاء اللبناني العظيم في وجه كل هذا؟
لأننا اعتبرنا ذلك عبثاً بالنظر لما فعله زعيم الحزب والرئيس بالقضاء الضعيف أصلاً!
وإذا كان لا بدّ من رهانٍ أخير: إذا كان القضاء مستقلاً فسيرفض الدعوى على الدكتور فارس سعيد، لأنّه لا جريمة ولا جنحة في تصرّفات المعارضين السياسيين، ما داموا يتجنبون الحساسيات الدينية والشخصية. وهذان الأمران ما فعلهما فارس سعيد أبداً فهو يتجنب الشخصي دائماً ويتجنب سخافات الاتهامات الطائفية!