العلاقة الفرنسية – الألمانية تمكنت من الالتفاف على الموقف الواجب اتخاذه في شرق المتوسط، لأن التداخل بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتاريخ لا يسمح باهتزاز الصلة بين باريس وبرلين، بالرغم من أهمية أنقرة وأثينا في حساباتهما.
يتصاعد التوتر في شرق المتوسط الذي يتحول لأبرز مسارح الصراع الإقليمي – الدولي حول الطاقة والنفوذ. وتنعكس المبارزة التركية – اليونانية على أمن ودور أوروبا، وتمس تداعياتها الثنائي الفرنسي – الألماني الذي لعب تاريخيا دور المحرك للمجموعة الأوروبية ثم للاتحاد الأوروبي. ومن دون شك، تمثل اندفاعة أردوغان في التمدد المتوسطي تحديا جيوسياسيا رئيسيا لأوروبا وبشكل خاص إزاء العلاقة الفرنسية – الألمانية المتناغمة والمتكاملة على أكثر من صعيد باستثناء بعض الإشكالات وأبرزها الموقف من تركيا الذي سيكون الاختبار لمتانة الصلة الألمانية – الفرنسية، ولقدرتها على التوصل لتعزيز الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي في حقبة ارتباك النظام الدولي.
شهدت الأشهر الأخيرة تدهورا مطردا للعلاقات بين تركيا وغالبية اللاعبين المتوسطيين بما فيهم قوى أوروبية، بعدما أخذت أنقرة تتصرف في الأشهر الأخيرة، في وقت كقوة إقليمية شرق البحر المتوسط، وكقوة متدخلة في ليبيا. وبرهنت أنها غير مكترثة بدعوات لعدم استمرار التنقيب عن الطاقة في مناطق متنازع عليها لأنها ترفض اعتبار ذلك من الانتهاكات نتيجة عدم توقيعها “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار” التي جرى إقرارها في العام 1982 ودخلت حيز التنفيذ بداية التسعينات. ونتيجة اعتماد نظرية “الوطن الأزرق” لتبرير التمدد ورفض اتفاقيات تحديد الحدود البحرية بين دول الجوار خاصة بين مصر واليونان، وبين قبرص وجيرانها، رفع أردوغان من وتيرة مواقفه ضد من يعترضه وأسماهم “قراصنة”، في الوقت الذي أعلن الرئيس التركي عن مواصلة التنقيب مع تصعيد ضد اليونان وفرنسا. ووصل الأمر بأنقرة لاتهام فرنسا بممارسة دور “بلطجي” في شرق المتوسط، وأرفقت ذلك بتوجيه تحذير شديد اللهجة لليونان، وذلك غداة نشر باريس طائرتين عسكريتين وسفينتين حربيتين في شرق المتوسط دعما لأثينا.
في مواجهة ذلك شددت مصادر في باريس على أنّ “فرنسا قوّة متوسطية”، وتمارس دورها الطبيعي ضمن التزاماتها داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وفِي هذا السياق انتقد الرئيس الفرنسي سياسات نظيره التركي في المنطقة، محذرا من أطماعه التوسعية التي “باتت تهدد أمن واستقرار أوروبا” لأنها “سياسة توسّعية تمزج بين المبادئ القومية والإسلامية ولا تتّفق والمصالح الأوروبية”.
تركز فرنسا على وجوب تصدي أوروبا للمقاربة الأردوغانية في المتوسط وللنهج التركي، ولذا كشف ماكرون عن رفضه أساليب “الدبلوماسية الضعيفة” وأن يكون التضامن الأوروبي مع اليونان وقبرص فعّالا وله معنى.
وأتى هذا التصعيد من ماكرون بعد قيام وزير خارجيته في وقت سابق بدعوة الاتحاد الأوروبي للدفاع بحزم عن “مصالحه الخاصة أمام التغول التركي”، حيث أن التحركات التركية في المتوسط والاتفاقيات المبرمة بين حكومة الوفاق وأنقرة تخول لتركيا المس مباشرة بالمصالح الأوروبية.
هكذا مع هذا الموقف الفرنسي المتقدم في اتهام ماكرون أردوغان بانتهاج سياسة توسعية ومزعزعة للاستقرار، أصبح احتواء الاندفاعة التركية الحالية بندا حاضرا في المشاورات بين الدول الغربية وبينها وبين الدول المعنية بأمن المتوسط واستقراره.
وكشفت التوترات الحالية في شرق البحر المتوسط عن هزة عميقة انتابت الثنائي الفرنسي – الألماني. إذ أن باريس كانت في صراع كامل مع الرئيس أردوغان، تعاملت ألمانيا على نفس المستوى بين اليونانيين وحلفائهم الفرنسيين، من ناحية، والأتراك من ناحية أخرى عبر دعوتها كافة الأطراف إلى “تجنب التصعيد”.
ودفع ذلك بعض الأوساط الفرنسية للتساؤل عن العلاقة الخاصة التي تربط ألمانيا بفرنسا ولماذا لا تسري على هذا الوضع، لأنه حسب هذه الأوساط “كان من المفترض أن تمنح المستشارة أنجيلا ميركل دعمها الكامل لباريس ضد عدوانية تركيا وتوسعها”.
بيد أن فريق ماكرون كان ينظر للأمور من زاوية براغماتيكية ولا يريد أن يتأثر التقارب الفرنسي – الألماني بهذا التباين كما يراه وينظر إليه معارضوه على أنه تأكيد على خلل، يمكن أن يؤدي إلى طلاق داخل الثنائي الفرنسي – الألماني، لأن برلين تولي الأولوية لمصالحها الخاصة غير آبهة بالبعد الأوروبي ودورها القيادي. إلا أن الإليزيه يعتبر أن إقدام ميركل قبل تقاعدها على الدفع باتجاه خطة اقتصادية أوروبية طموحة لمعالجة تداعيات كورونا (780 مليار يورو) يعتبر تتويجا لوحدة الرؤى بين باريس وبرلين في الكثير من المسائل. وقد برز ذلك في قمة جمعت ميركل وماكرون في المقر الصيفي الأخير في جنوب فرنسا، الخميس 20 أغسطس، إذ جرى التأكيد على العمل بخطة الإنقاذ الأوروبية وتطوير التعاون التكنولوجي والصناعي والرقمي كي تستطيع أوروبا تعزيز موقعها التنافسي، وكذلك كانت هناك تفاهمات حول التصدي لجائحة كورونا، وبرزت وحدة في المواقف تجاه الملفين اللبناني والليبي وإزاء الوضعين في روسيا وبيلاروسيا.
وحده الموقف من تركيا كان العائق أمام الانسجام التام الفرنسي – الألماني، وهذا كان متوقعا، نظرا للتناقض بشأن المبارزة التركية – اليونانية، خاصة أن باريس وبرلين بدتا وكأنهما قدمتا إجابات متضاربة على ذلك الأسبوع الماضي، بينما اختار الفرنسيون استعراض القوة العسكرية، وشدد الألمان على “الحوار” مع رجب طيب أردوغان. لكن في “لافور بيرغونسون” (المقر الصيفي للرئيس الفرنسي) أوضح ماكرون وميركل أنهما يشتركان في أهداف مشتركة وأن أفعالهما كانت “متكاملة”. ذكر ماكرون أنه باسم التضامن الكامل مع اليونان وقبرص عززت فرنسا مؤقتا وجودها العسكري في المنطقة. وأضاف أنه في الوقت الذي رحب فيه بالوساطة التي أطلقتها ألمانيا مع تركيا، يجب النظر إلى الأمور من جديد عند قيام أنقرة باستفزازات أو ارتكاب تجاوزات. تمخضت القمة الصيفية السريعة عن “نوع من التقسيم الجيوسياسي للعمل” حسب مصدر في بروكسيل حيث أن باريس تدافع عن “السيادة” الأوروبية من خلال وضع خط أحمر عسكري بينما تقوم برلين بالدفاع عن “الاستقرار” من خلال الحفاظ على الحوار مع أنقرة.
إنها إذن العلاقة الفرنسية – الألمانية التي تتمكن من الالتفاف على الموقف الواجب اتخاذه في شرق المتوسط لأن التداخل بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتاريخ لا يسمح لبرلين وباريس باهتزاز عميق للصلة بينهما بالرغم من أهمية أنقرة وأثينا في حساباتهما.
khattarwahid@yahoo.fr