في 4 آب جرى أمران هائلان وفظيعان: تدمير المرفأ وثلث مدينة بيروت بشراً وحجراً، وتهجير المسيحيين من المدينة!
أما المسيحيون الأرثوذكس، فهم موجودون بالمدينة من أزمنةٍ سحيقة. وأما الطوائف المسيحية الأُخرى، فجاءت إلى بيروت تباعاً على مدى أكثر من قرنين. وخلال تلك المدة، تجذّر العيش الإسلامي – المسيحي في بيروت، وقامت المدينة الحديثة التي أنشأ ناسها وروّادها الدولة الحديثة، ومدارسها، وجامعاتها، ومصارفها، ومستشفياتها، ومرفأها، ومطارها، ومجتمعها، وثقافتها الحرة والمزدهرة.
يخبرنا المؤرخّون أنه في القرن العاشر الميلادي شاع على ألسنة أهل غرناطة الأندلسية التي قام فيها عيشٌ إسلاميٌّ – مسيحيٌّ زاهر، قولٌ سائر: هواء المدينة يجعل المرءَ حرّاً! وما عرف العرب (وأكاد أقول: ولا العالم) في القرن العشرين حاضرةً للعيش المشترك والإنساني والمتقدم مثل بيروت وازدهارها وحريّاتها. قال لي الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وقد زرتُه في منفاه بمدريد في ثمانينات القرن العشرين ومضينا معاً إلى غرناطة حيث ردّدتُ على مسامعه مقولة الغرناطيين القدامى: “دع عنك التاريخ يا رجل، واذكر بيروت. فلا هواء للحرية في عالم اليوم إلاّ في بيروت، ولذلك غزاها الصهاينة!”.
إنّ التدمير الثالث لمدينة بيروت (1982، 2008، 2020) روحاً وعمراناً، وروحاً قبل العمران، ارتكبته السلطة التابعة والمتواطئة، وحزب السلاح. ولدينا الآن وفي شهر آب بالذات مناسبتان أو استحقاقان لبيروت ولبنان: مواجهة الدمار الذي نزل بمرفأ بيروت وإنسانها وعيشها الواحد في 4 آب ونهوض العالم لنجدتها وإغاثتها، وموعد صدور الحكم من المحكمة الدولية الخاصة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري اليوم 18 آب.
في قضية الاغتيال الشائن، حزب السلاح معنيٌّ بشكلٍ مباشر. فكلّ الذين يصدر الحكم بحقّهم هم من فريق حزب السلاح. وفي قضية اغتيال بيروت للمرة الثالثة، فإنّ الجريمة مزدوجة وتقع مسؤولياتُها على السلطة التابعة لحزب السلاح والمتواطئة معه على تخريب البلاد والنظام والعيش المشترك لبيروت ولبنان – وعلى الحزب قبلها ومعها الكاره لبيروت وأهلها – وعيشها المشترك، والمستولي على مرفئها، ومطارها، ومرافقها، وحدودها البحرية والبرية والجوية!
اللبنانيون، وبسبب كثرة المصائب التي انصبّت على رؤوسهم، يردّدون دائماً أنّ العرب والعالم تركوهم! وكيف يصحُّ هذا وها هو العالَم بدوله الكبرى يحضر لنجدة بيروت ولبنان للمرة الرابعة أو الخامسة خلال عقودٍ قليلة. نعم، تحضر اليوم في بحر بيروت ومطارها، بوارج وسفن وطائرات خمس دولٍ كبرى أربعٌ منها أعضاء في مجلس الأمن الدولي: الألمان موجودون أصلاً ويتزايد حضورهم للإغاثة. وأتى الفرنسيون، والروس، والبريطانيون، والأميركيون. وهؤلاء أنفسهم هم الذين كانوا وراء صدور القرارات الدولية بمجلس الأمن لحماية لبنان (1559، 1595، 1680، 1701)؛ باعتبار أنّ ما وقع، وكان يقع في هذا البلد وعلى هذا البلد “يهدّد الأمن والسلم الدوليين”!
حزب السلاح غاضبٌ، وقد قال زعيمه المعصوم لمسلَّحيه: احتفظوا بغضبكم، فسنحتاج إليه! من الذي ينبغي أن يغضب؟ المقتولون أم القتلة؟ والمجرمون أو الضحايا الأبرياء؟ والذين خربت بيوتهم أم الذين تسبّبوا في خرابها؟!
هم غاضبون لأنّ الصوت ارتفع ضدَّ جرائمهم، ولأنّ أساطيل العالم الكبير جاءت للنجدة والإنقاذ. وحده وزير الخارجية الإيراني، منزعج من التدخّل الأجنبي كما قال! أوَ ليس الميليشيا التي أنشأتموها و”المحور” الذي ألحقتمونا به تدخُّل، ما عرفنا في تجربتنا معه غير الخراب؟
أيها البيروتيون!
إنّ هؤلاء جميعاً يأتون لمساعدتنا في وجه الخراب وضياع الدولة وعيش الناس، ولا يخجل « ظريف » وغيره عندما يقفون ضد قيام حكومةٍ حقيقيةٍ وغير مُسَيطًرٍ عليها في البلاد: لإغاثة البشر، وإعمار ما تهدَّم، وإيقاف الانهيار الاقتصادي. وكلُّ ذلك بمساعدة المجتمع الدولي وأمواله وجنوده الذين يقفون مع جنودنا على الحدود مع العدو، بعد أن تناهبَ أموالَنا واستقرارنا وحياة أبنائنا الفساد والسلاح، والسلاح والفساد، من جانب ميليشيا السلطة ومافياتها!
إنّ الإغاثات ضروريةٌ لحياة الناس. لكنها ليست كافيةً أيها الدوليون. إذ سبق لكم وللعرب أن عمّرتم وساعدتم، ثم جاء الغزاة المسلَّحون فدمَّروا ما بنيتم. لا بدّ من تطبيق القرارات الدولية التي أصدرتموها، وبخاصةٍ القرارات 1559، و1680 و1701 بعد أن نُفِذَ بصدور الحكم على قتلة الرئيس الحريري، القرار 1595، لكي تنتهي نهائياً غلبة السلاح وشروره.
ولا بدّ من إسقاط السلطة المتواطئة. فهي ما سلَّمت الدولة للمسلّحين فقط، بل وتحالفت معهم في سلب أموال اللبنانيين وحرياتهم، وتمتعت بحمايتهم من غضب الناس على تدمير عيشهم!
العدالة لبيروت ولبنان تكون بإسقاط اللبنانيين لسلطة الفساد والتفرقة بين اللبنانيين وتدمير عيش مسيحيي بيروت ومسلميها. حكم المحكمة الدولية ملزم للسلطة اللبنانية. وقد أنفقت عليه الحكومات المتعاقبة من المال العام. والتنكّر للحكم وعدم العمل على تطبيقه، ينعكس مزيداً من فقد الشرعية الوطنية والدولية. لقد انتهت هذه السلطة، وينبغي إزالتها بدون تردّد.
والعدالة لبيروت ولبنان تكون بنزع سلاح الميليشيا المسلحة، من طريق جبهةٍ وطنيةٍ عريضة، يقف معها المجتمع الدولي والمجتمع العربي لتطبيق القرارات الدولية.
البطريرك الراعي حمل راية النهوض الوطني بالدعوة لتحقيقٍ دولي في جريمة تدمير بيروت، وتغيير السلطة الفاسدة والمتواطئة في انتخاباتٍ مبكّرة، والإقبال على النضال من أجل تطبيق الدستور لحفظ الشراكة المسيحية – الإسلامية، وتحييد لبنان عن النزاعات والمحاور.
فليكن خطاب البطريرك هو البرنامج للجبهة الوطنية من أجل إنقاذ لبنان.
نعم لإسقاط سلطة التواطؤ والفساد، والخروج على الدستور، وعلى القرارات الدولية.
ونعم لعزل حزب السلاح، والامتناع من الشراكة السياسية معه.
ونعم لقيام الجبهة اللبنانية للإنقاذ الوطني لاستعادة البلاد وسيادة الدولة من السلاح والفساد!
اليوم يستعيد لبنان نفسه فيستعيد العرب والعالم.
رحم الله رفيق الحريري الذي كانت حياته عزّاً وأملاً، وكان استشهاده نهوضاً وطنياً شاملاً، وسيكون الحكم على قَتَلته عدالةً وحريةً لبيروت ولبنان!