منذ قيام الهند ككيان مستقل عن الهند البريطانية وحتى سنوات قليلة مضت كان حزب المؤتمر الهندي هو المسيطر على الحياة السياسية الهندية وكان معظم الذين تولوا زعامة البلاد من الأسرة النهرو/غاندية التي نالت شرعيتها من نضالها في سبيل استقلال الهند وتأسيس نظامها العلماني الديمقراطي الفيدرالي بدءا بالجواهر لال نهرو وابنته الحديدية أنديرا غاندي وانتهاء بحفيده راجيف غاندي.
كل هذا، بطبيعة الحال، معروف للجميع. والمعروف أيضا أن حزب البلاد التاريخي العريق بدأ منذ سنوات رحلة الضمور والتراجع بسبب انتشار الفساد والفضائح في صفوفه (صفقة طائرات رافال الفرنسية المقاتلة سنة 2012 مثالاً)، وترهل أجهزته وهياكله، وعدم إيفائه بالوعود الكثيرة التي قطعها على نفسه للجماهير بعد وصوله للسلطة، فبات رصيد الشعبي في انحدار متواصل إلى درجة فقد معها زعيمه الشاب راهول غاندي مقعده النيابي في دائرة أميتي بولاية أوتر براديش الشمالية التي ظلت لعقود طويلة قلعة من قلاع حزب المؤتمر الحصينة وذلك بحسب نتائج إنتخابات 2019 التي ظهرت في مايو المنصرم.
في المقابل برز حزب بهاراتيا جاناتا القومي كحزب بديل يحقق الانتصارات المدوية التي كانت يوما ما من نصيب حزب المؤتمر، ويفرد سطوته الكاسحة على البلاد، ويكسب الشعبية الجارفة من خلال خطاب غير مسبوق مفاده أنّ سلالة نهرو/ غاندي لم تفعل شيئا للهند سوى الإتيان بأفرادها للسلطة دون إشراك من لا ينتمون إليها، بل دونما حتى الاعتراف بأفضال اثنين ممن تبوءوا رئاسة الحكومة الهندية من خارجها في إشارة إلى رئيسي الوزراء السابقين «ناراسيمها راو» و«مانموهان سينغ». وبموازاة هذا الخطاب كان هناك خطاب شعبوي آخر دغدغ عواطف عشرات الملايين من المقترعين الهنود الفقراء، ومفاده أن زعماء حزب المؤتمر ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، وبالتالي فهم أبعد ما يكونوا عن إدراك أحوال الهنود من الفقراء والمعوزين والمهمشين، أي على العكس من رموز بهاراتيا جاناتا وحلفائها الذين ولدوا فقراء ولا يزالون يستشعرون آلام الغالبية العظمى من الشعب واحتياجاتهم المشروعة، مشيرين في هذا السياق تحديدا إلى سيرة رئيس الحكومة الحالي «ناريندرا مودي» الذي صعد إلى زعامة الهند في العام 2014 من خلفية اجتماعية متواضعة وسنوات من الكد والكدح كبائع للشاي على أرصفة محطات القطار في مسقط رأسه بولاية غوجرات.
ويبدو أن هزيمة راهول غاندي المدوية وخسارة حزبه في الانتخابات العامة الأخيرة بفارق كبير لصالح مودي وبهاراتيا جاناتا دفعت الرجل إلى التفكير مليا، فكان قراره مؤخراً بالتخلي عن زعامة حزب المؤتمر وإرث جده وجدته السياسي من أجل إتاحة الفرصة لتجديد الدماء في المؤتمر علّ ذلك يفيد مستقبلاً في إعادة الوهج لحزب الهند التاريخي ويبعد عنها إتهامات الغرور والتسلط العائلي.
وقد لا يكون تخلي راهول عن قيادة حزبه في هذه الظروف العصيبة قراراً نابعاً من قناعته الشخصية، لكنه اتخذه على أي حال وهو يردد «مجبر أخاك لا بطل» لعدم وجود بدائل أخرى، ناهيك عن أن مثل هذا القرار قد يرفعه في نظر محازبيه وأنصاره كشخص يجيد فضيلة الاعتراف بالخطأ والفشل على نحو ما هو متبع في الديمقراطيات العريقة التي تلجأ فيها الشخصيات السياسية عادة إلى تحمل فشلها بالاستقالة من مناصبها والتواري.
على أن مشكلة حزب المؤتمر ليست في تغيير قائده الذهبي الشاب والإتيان بقيادة جديدة، بقدر ما هي في إعادة هيكلة الحزب وتجديده وتطهيره من العواجيز وحقنه بدماء قادرة على استيعاب المتغيرات الداخلية والخارجية الكثيرة التي تموج بها الساحة الهندية والساحتين الإقليمية والدولية برؤى جديدة غير تقليدية. فزمن راجيف غاندي ومنموهان سينغ مختلف تماماً عن زمن أتال بيهاري فاجباي وناريندرا مودي داخلياً وخارجياً، سواء لجهة الملفات السياسية والاقتصادية أو لجهة التحديات الاجتماعية والأمنية.
ومع تمسك «لجنة العمل العليا»، وهي أعلى سلطة داخل حزب المؤتمر تمتلك حق اتخاذ القرارات الحاسمة، براهول غاندي قائداً للحزب رغم إخفاقاته الكثيرة وتجاربه المحدودة، ومع تخوف رموز الحزب المعروفة من الإقدام، حتى الآن، على ترشيح أنفسهم لخلافة الرجل، تزداد قناعة الهنود بما يردده حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم من أن حزب المؤتمر هو حزب الأسرة النهرو/غاندية، والطبقة البرجوازية.
والحقيقة التي لابد من قولها في الختام أن «لجنة العمل العليا» هذه تضم كل رموز حزب المؤتمر من الحرس القديم، وبينهم عواجيز بلغوا من العمر عتيا (مثل «موتيلال فورا» البالغ من العمر 93 عاماً وآخرين كثر لا تقل أعمارهم عن 75 عاماً) ممن وقفوا دائما ضد الأفكار الإصلاحية لراهول غاندي، بل لم يصادقوا حتى على الأسماء التي رشحها الأخير لخوض المعترك الانتخابي. ولعل في الفقرة الأخيرة من خطاب استقالة غاندي من قيادة حزبه ما يوحي بذلك، وذلك حينما قال إن العديد من رموز الحزب يجب مساءلتهم عما لحق به من هزيمة في انتخابات 2019.