ما الذي يُحرّض على قراءة كتاب عن دكتاتور كوريا الشمالية، كيم جونغ أون؟ أليس فينا ما يكفينا؟ والصحيح أن قراءة كتاب صدر بالإنكليزية في مطلع حزيران الجاري، بعنوان “الوارث العظيم: المصير الرباني الكامل للرفيق اللامع كيم جونغ أون“، يندرج في سياق محاولة للاقتراب اكثر، ومقاربة “ما فينا“.
ولعل أوّل ما يتبادر إلى الذهن أن العنوان مُستمد من المدائح التي تكيلها وسائل الإعلام الكورية الشمالية، ليل نهار، لحاكم مُطلق ورث النظام والشعب والدولة عن أبيه، الذي ورث النظام والشعب والدولة عن أبيه، في أول جمهورية شيوعية وراثية في التاريخ، وبالمقارنة بينها وبين دولة شمولية خيالية تصوّرها، وصوّرها، جورج أورويل في رواية بعنوان “1984”، فإن دولة أورويل تبدو أرحم بكثير.
ومع ذلك، وإن كان العنوان جزءاً من البضاعة الدعائية الرائجة في تلك البلاد، فإن “آنا فيفيلد”، التي اشتغلت مديرة لمكتب “الواشنطن بوست” في طوكيو، وزارت كوريا الشمالية مرّات كثيرة، اختارته مدخلاً لكتابها، على الأرجح، لتعميق دلالة الكوميديا السوداء. ولعل هذا القدر من الرفاهية الفكرية ما نحتاجه، أيضاً، كلما فكّرنا في أحوال العالم العربي هذه الأيام.
وإذا كان ثمّة من أسئلة بحثتُ عن إجاباتها المُحتملة، في الكتاب المذكور، فلعل أبرزها: كيف تنشأ السلالات الحاكمة، وتدوم، خاصة في جمهوريات راديكالية ؟ ولا يبدو، في هذا الصدد، أن إجابة واحدة تكفي، وإن كان من الممكن تصنيفها مجتمعة تحت عنوان عام وعريض اسمه الخوف، فلا إمكانية لإنشاء النظام الشمولي، والوراثي، بلا سلاح الخوف، الذي ينبغي التحكّم في جرعاته، وتنشيطه، من وقت إلى آخر.
ولكن سلاح الخوف نفسه لا يكفي، فالنظام الشمولي يحتاج أسطورة مؤسسة. لكل دول وشعوب العالم أساطير مؤسِسِة، وميزة النظام الشمولي إنشاء صلة تكاد تكون عضوية بين الأسطورة المؤسِسة، والقائد المؤسِس، الذي ينبغي للدعاية أن تصنع منه أباً للشعب، وضامناً للحاضر والمُستقبل، لا في حياته وحسب، ولكن عبر جيناته التي ورثها الأبناء والأحفاد، أيضاً.
والمهم، أن أحداً لا يصنع أسطورة مؤسِسة، في الشرق الغرب على حد سواء، دون استعارة مكوّنات أساسية من الثقافة الجمعية، وميراثها التاريخي. ومن المكوّنات الأساسية والمُشتركة في كل ثقافات الكون، أسطورة المُستبد العادل، والملك الفيلسوف. وفي الثقافات الشرقية، على نحو خاص عبد الناس في وقت مضى ملوكهم، وأسلافهم، وأفردوا لرؤساء القبائل والآباء وكبار السن مكانة خاصة.
وفي سياق كهذا، لم يهبط كيم إيل سونغ، الذي أنشأ سلالة حاكمة في كوريا، ولا حافظ الأسد الذي أنشأ سلالة حاكمة في سوريا، (ولا معمّر القذافي، وصدّام حسين، وعلي عبد الله صالح، وحسني مبارك، وكل هؤلاء لم تعوزهم النيّة، ولا أعيتهم الحيلة، بل خذلهم الحظ) من السماء، بل نبتوا في بيئة ثقافية، واجتماعية، يمكن الاستعانة بثقافتها وميراثها التاريخي لإنشاء، أو إعادة إنشاء، أساطير مؤسِسِة، والوقوع في غواية إنشاء سلالة حاكمة.
ومع ذلك، إذا سلّمنا بعوامل الخوف، وأسطورة الشعب، والقائد المؤسِس، والأب الحاني، والاستعانة بمكوّنات ثقافية وتراثية مُساعدة، فإن ديمومة النظام الشمولي تستدعي وجود مؤمنين به، وحرّاس له. وهذا يعني وجود شريحة اجتماعية تمثّل العصب الحي للنظام، وعموده الفقري، وهذه يجب أن تغتني، وأن تحظى بحياة وحريّات أفضل من بقية المواطنين، وعليها أن تدرك جيداً أن كل ما لديها من امتيازات مشروط بالولاء المُطلق، لذا يختار النظام الشمولي أكباش فداء من تلك الشريحة من وقت إلى آخر لتذكير البقية بواجب الطاعة. فالحاكم المُطلق هو الواهب والمانع في آن.
لذا، لم يتورّع كيم جونغ أون، عن التضحية بزوج عمّته، الذي أشرف على عملية التوريث، بعد وفاة السيّد الوالد، واعتبره البعض، إلى ما قبل إعدامه بقليل، الرجل الثاني في النظام. ومن بين التهم التي أدين بها، مثلاً، أنه لم يصفق بحرارة، وتمهّل حتى في الوقوف، عندما نهض الحاضرون في القاعة تحية “للوارث العظيم“.
ومع وجود كل ما أسلفنا من عوامل تبقى حقيقة أن البعض يؤمن، فعلاً، بالأسطورة المؤسسة، وبالقائد المؤسس، والأب الحاني، وبحق الحاكم المُطلق في إنشاء الجمهوريات الوراثية. تدرك الغالبية العظمى من الناس أن كل ما يصدر عن النظام يدخل في باب الكذب، حتى وإن كانت تخشى التعبير، علانية، عن أمر كهذا. ومع ذلك، لا يندر وجود مؤمنين. وفي وجود هؤلاء ما يدل على قوّة مكوّنات بعينها في صلب الأساطير المؤسسة.
الروح القومية من أهم مصادر توليد وتجنيد المؤمنين بكيم إيل سونغ وسلالته في كوريا الشمالية. ففي الثقافة الكورية تمركزات في صميم الثقافة والميراث الجمعي من نوع أن الكوريين هم أنقى بني البشر دماً وعرقاً وأرقاهم ثقافة. وهذا ما لعب عليه الأب المؤسس، وعمّق وجوده، وحوّله إلى مكوّن رئيس في فكرة الجماعة عن نفسها.
ويمكن، في سياق كهذا، العثور على صلة ما بين استيهامات الكوريين الشماليين، واستيهامات البعثيين العرب عن الأمة الواحدة، ورسالتها الخالدة. وقد دفع الكثير من المناضلين القوميين أرواحهم في سبيل الأمة ورسالتها، لينتهي الأمر بالأمة والرسالة في جمهورية وراثية ما زالت قائمة، وأخرى أسقطها الاحتلال الأجنبي، وكلتاهما ارتكبت جرائم في حق الإنسانية.
على أي حال، المهم الحفاظ، في الذهن، على حقيقة أن ثمة ما يشبه مصيراً ربانياً كاملاً لرفيق لامع في كل الأنظمة الشمولية، مَنْ سقط منها، ومن بقي، ومَنْ يتخلّق الآن، أو في رحم الأيام، فمن ألاعيب الدهر أن نصيب العرب من الرفاق اللامعين، ومصائرهم الربانية لم ينفد بعد.
khaderhas1@hotmail.com