خرج اسماعيل هنية من غزة في جولةٍ انتصاريةٍ حملته إلى قطر وإلى تركيا ثم إلى لبنان. المرّة الوحيدة التي رأيتُه فيها عياناً فيما أظن كانت عام 1993 عندما نفت إسرائيل مئات من كوادر الحزبيين الفلسطينيين من “حماس” و”الجهاد الإسلامي” عبر الحدود إلى جنوب لبنان حيث أُقيم لهم معسكرٌ مؤقت في منطقة “مرج الزهور”. وأظنّ أنّها كانت المناسبة الأُولى لحماس بالذات، التي أنشأت خلالها علاقاتٍ مع حزب الله عبر زيارات متكرّرة وتدريبات محدّدة تولاها عماد مغنية ووفيق صفا، من القيادات الأمنية للحزب.
في مرج الزهور سمعنا (مستطلعين وصحافيين) أنّهم ضدّ أوسلو، لكنّ وحدة الشعب الفلسطيني والنضال الفلسطيني الواحد هما المبدأ الأعلى، والذي لا يمكن الإخلال به، وإلاّ ضاع الشعب الفلسطيني وتاريخه النضالي الذي بدأ في ثورة العام 1936. لكن منذ ذلك الزمن البعيد جرت في النهر مياهٌ كثيرة. فمعظم الذين سمعنا خطاباتهم في ضرورة الوحدة لاستمرار النضال من أجل الاستقلال والدولة، قتلتهم إسرائيل. وفيما بين مقتل ياسر عرفات عام 2004 وانقلاب حماس في غزّة على السلطة الفلسطينية عام 2007، انتصرت في ممارسات حماس والجهاد، كما قال وقتها خالد مشعل، اعتباراتُ “الثورة والتحرير على اعتبارات وأوهام الوحدة الزائفة، والحلول الاستسلامية “. في ذلك الوقت، كانت حماس قد صارت أحد “تنظيمات المقاومة” التي تدعمها إيران في دول المشرق العربي، مرةً من أجل التحرير، ومرةً من أجل هدم السلطات في الدول المزعجة، ومرةً ثالثةً من أجل تصدير الثورة الإيرانية وتقاليدها في القتل والتخريب والاستتباع، ولا بأس أيضاً بالتشييع!
أنفقت إيران مالاً وسلاحاً كبيراً وكثيراً على حماس. ولعب حزب الله، كما لعب النظام السوري، دوراً كبيراً في الاستهواء والاستتباع. ولذلك فشلت كلّ المحاولات العربية، ومن المملكة العربية السعودية، ومن مصر، ومن الإمارات، في الإقناع باستعادة الوحدة، وما يزال “عهد مكة” الذي عقده الملك عبد الله بين الطرفين عام 2007، والذي نقضته حماس، شديد المرارة على العرب في الذكرى وفي الواقع. وما أظهرت حماس بعض التمايز عن السياسات الإيرانية إلاّ في العام 2011 عندما رفضت الدخول في الحرب السورية إلى جانب النظام، وقد دخلها حزب الله وأحمد جبريل وفصائل أخرى باستماتةٍ، وما يزالون. لكنّ ذلك التمايُز زال من سنوات. بل إنّ “الحروب” التي تشنّها حماس على إسرائيل والعكس، كانت وما تزال مثل حروب حزب الله: تعمد إيران لإثارتها عندما ترى في ذلك مصلحةً لها في المساومات واضطرابات التفاوض مع الولايات المتحدة. فغزّة مثل لبنان رهينة ورهان عند إيران!
قلت عام 2014 للدكتور رمضان شلّح، زعيم “تنظيم الجهاد الإسلامي” رحمه الله، الذي توفي قبل أشهر بمستشفى الرسول الأعظم في ضاحية بيروت الجنوبية، بعد مرض عضال: “أنا معجبٌ بكم وبحماس لأنكم أبيتم المشاركة في الحرب على الشعب السوري!”. فما سُرَّ ولا ابتسم، وقال: “نحن يا أخي للأسف عائدون إلى الحضن الإيراني المليء بالأشواك، لكنْ لا حضن غيره! حماس تنظيم ضخم، وتعويضات لعوائل الشهداء، ومرتبات للمقاتلين، وأجهزة إعلامية، وأُخرى سياسية وليس في غزة ولبنان فقط. تحتاج حماس ونحتاج نحن إلى كل شيء، وإيران أهم مصادرنا، وهذا إذا لم نقاتل، فكيف إذا قاتلنا!”. فقلت له: “لكن حماس عندها قطر، وتركيا، وجهات أُخرى!”. وهناك ضحك وقال: “حتّى الجهات التي ذكرتَها والتي لم تذكرها تستطيع إيران إيقاف دعمها لنا. كلّ هذه الجهات وفي طليعتها إيران تريد أمرين لا علاقة لهما بفلسطين: الراية الفلسطينية التي لا يصلح حزب الله وحده لحملها، وإزعاج الدول العربية بنا والحطّ عليها باعتبارها قليلة الإخلاص للقضية الفلسطينية، بعكس إيران والآن تركيا!”.
أتى اسماعيل هنية وصحبه من “الفصائل” العائشة بين غزة وسورية وطهران لخدمة حزب الله وإيران. أتوا إلى بيروت في وقتٍ تشتدّ عليه الضغوط الداخلية اللبنانية والأميركية والإسرائيلية. وزعيم الحزب المعصوم في وقت ضعفه هذا، يريد أن يبدو من جديد زعيماً أوحد للمقاومات في وجه اللبنانيين والعرب والعالم. ولا يحسبنّ أحد أنّ الضغوط التي ذكرناها خارجية فقط، بل هي لأول مرةٍ وبالدرجة الأولى داخلية. فمعظم اللبنانيين ما عادوا يطيقون الحزب وسلاحه. وما عاد أحدٌ على التلفزيونات وفي وسائل التواصل ومقالات الرأي وهتافات المتظاهرين يكتم ذلك أو يجامل فيه. فهو يبتزّ اللبنانيين ويستقوي عليهم ليس بالسلاح فقط، بل وبالسيطرة على المرفأ الذي انفجر فينا، وعلى المطار وعلى المعابر مع سورية، ويفوق فساده فساد سائر الفرقاء اللبنانيين الأماجد!
يأتي اسماعيل هنية مع “الفصائل” الميليشياوية المعروفة لدى اللبنانيين منذ القديم، والتي ترتهن قطاع غزّة لصالح إسرائيل وإيران وتركيا والنظام السوري، ولا ندري لمن ومن أيضاً، ليذكّر اللبنانيين بالمساوئ الهائلة لفترة السبعينات، وليذكّرهم بالحروب الإسرائيلية على لبنان منذ العام 1978 بذريعة المقاومات التي لا تنتهي. وليذكّرهم باللاجئين الفلسطينيين البؤساء الذين يريد هنية وراثتهم من حركة “فتح” و”منظمة التحرير”، ليزدادوا بؤساً. ويزداد سخط اللبنانيين عليهم وسط أعباء النزوح السوري، وأعباء انفجار المرفأ، وأعباء الانهيار الاقتصادي، ومخاوف تداعي الدولة والوطن وزوالهما!
ولم يكتفِ هنية بادّعاء الوراثة، بل عمل عراضة عسكرية، وهدّد إسرائيل، التي لا تخافه بالتأكيد، بقصف تل أبيب وما وراء تل أبيب، تقليداً للزعيم المعصوم القديم. وهذه البهورة كلّها، وفي هذه الظروف، بالذات، لا تفيد لبنان ولا تفيد فلسطين.
اللبنانيون مصابون إصابات مروِّعة، لكنهم لا يريدون الوصول إلى واقع سوري أو فلسطيني أو إيراني. يتوهّم اللبنانيون أنّ وضعهم ما يزال أفضل، لكن حتى الغزاويين يستطيعون الوصول إلى ودائعهم في البنوك ونحن لا نستطيع!
لقد تكفّلت السلطة العظيمة التي يسيطر عليها الحزب بعزْلنا عن العرب والعالم، وها هي بطلبٍ من حزب الله، تعيد إدخال زعماء ميليشيات مسلّحة فلسطينية بالاسم، إلى لبنان الكسيح، وبموافقة وزير الخارجية المصرّف للأعمال بعد استطلاعه رأي رئيس الجمهورية، بناءً على طلب مدير الأمن العام. كما فعل الإيرانيون عندما أدخلوا إلى سورية عشرات الميليشيات الأفغانية والباكستانية والعراقية.. إلى آخر “مجاهدي” العالم ومرتزقته وبؤسائه.
هل هذه هي الطريقة الملائمة لنُصرة قضية الشعب الفلسطيني، والنعْي على العرب الذين لا يشاركون الميليشيات الزاحفة من كلّ حدبٍ وصوبٍ، آراءهم في المقاومة والتحرير؟!
أعجبتني نكتة نشرها الزميل نوفل ضو، قال فيها: “لقد أنفقنا عقوداً في إقناع المسيحيين اللبنانيين أنّهم عرب حتّى صار ذلك دستوراً. وعندما يتلفتون من حولهم اليوم يجدون أنّ المسلمين غادروا العروبة باتجاه إيران وتركيا، فهناك ضرورة الآن لإعادة تذكيرهم بأنّهم لبنانيون، وبأنّهم عرب!”.
يحسب العديد من الزملاء أنّ المسلمين اللبنانيين ستطرأ عندهم مشكلاتٌ وحيرة في الوعي والتصرّف، باعتبارهم بين المطرقة والسندان: إيران وتركيا من جهة، وإسرائيل من جهةٍ أُخرى. وهذا غير صحيح. فالحركات الدينية والميليشيات العاملة عند إيران وتركيا لا مجال للحيرة في ضلالها وانسداد الأفق الإسلامي والقومي والإنساني في تصوّراتها وتصرّفاتها. وإسرائيل هي الكيان الغاصب، الذي تُسهم تلك الميليشيات الموالية للإيرانيين والأتراك في دعم سطوته من طريق تدمير الإنسان والعمران في ديارنا!
نعم، نحن في محنةٍ كبرى في لبنان وفلسطين، وهي محنةٌ جلبتها علينا مقاوماتُنا الفظيعة، التي نسأل الله أن يخلّص فلسطين ولبنان وسائر ديار العرب منها: {والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.