أعادت مؤسسة الدراسات الفلسطينية طباعة ونشر “موسوعة بلادنا فلسطين“ لمصطفى مراد الدبّاغ، وأطلقت الطبعة الجديدة يوم أمس، الاثنين، في مسرح بلدية رام الله. لا أعرف، بالتأكيد، مدى حضور اسم الدبّاغ وموسوعته في الثقافة العامة للجيل الجديد من الفلسطينيين هذه الأيام، ولكن في مجرّد إعادة نشرها، وإشهارها، من جانب مؤسسة عريقة، ما يعني تعميم رسالة من جيل سابق إلى أجيال لاحقة، وما يعني، أيضاً، أن “الموسوعة“ مرشّحة لحياة إضافية لأن الحاجة لأمثالها لم تستنفذ بعد.
وتحضرني، في هذا المناسبة، حادثة خاصة لا بحكم تموضعها فيما يمكن وصفه بالذكريات الشخصية، بل بحكم ما فيها من دلالات وثيقة الصلة بالموضوع. ففي صيف العام 1982، قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بأسابيع قليلة، التقيت، بالصدفة، في كورنيش المزرعة، في بيروت، بعبد القادر ياسين (أبو جميل)، وبعد تبادل عبارات وأسئلة تقليدية أخبرني أنه “نزل“ قبل قليل من بيت مصطفى مراد الدباغ. وكنتُ حتى تلك اللحظة أعتقد أن الدبّاغ فارق دنيانا منذ زمن بعيد.
كان في مجرّد اكتشاف وجوده بين الأحياء ما يشبه وقع المفاجأة، وما أضاء زاوية معتمة في الذاكرة. مصطفى مراد الدبّاغ و“موسوعة بلادنا فلسطين“ اسمان متلازمان، لا يحضر أحدهما دون الآخر، في زمن صعود الفلسطينيين في التاريخ، وبحثهم عمّا يؤثث حاضرهم بمقتنيات ثمينة من الذاكرة التاريخية، التي لم تكن بعيدة تماماً في الزمن، وإن كانت تبدو وكأنها تنتمي إلى كوكب آخر، نتيجة ما طرأ على الجغرافيا والسياسة من تحوّلات وجراحات قسرية منذ العام 1948.
وما يعزز هذه الدلالة أنني طلبتُ، ذات يوم، قبل لقاء أبي جميل و“نزوله“ من بيت الدبّاغ، من زميل لنا يعمل محرراً في القسم الثقافي استغلال زيارته لدمشق في إجراء مقابلة مع الكاتب والمناضل القومي الكبير، محمد عزت دروزة، الذي سمعت أنه ما زال على قيد الحياة، في العاصمة السورية. “وما الفائدة من إجراء مقابلة مع حفرية تاريخية“. قال ذلك الزميل.
كان الرد صادماً. ومع ذلك، أجد فيه، اليوم، ما يتجلى من رعونة جيل يمارس “قتل الأب“ وهي لعبة أبدية، في كل زمان ومكان، وقد كانت ذات غواية خاصة في أوّل العمر والصبوات، في ذلك الزمن المسّيّج بالبنادق، وتوهّم الأبناء بأنهم أفضل حالاً من آبائهم. كنّا نبحث عن آبائنا، ولكن دون نسيان الفرق والمسافة.
لذا، عندما أشار أبو جميل إلى بناية على الجانب الآخر للشارع قائلاً: “يسكن هناك“، تملكني هاجس زيارة الشاهد الحي مِنْ، وعلى، زمن مضى. كانت البناية ذائعة الصيت، في أحد طوابقها مكتب منظمة التحرير، الذي يديره شفيق الحوت، وعلى سطحها يتمركز مسلّحون من “القيادة العامة“، وعشيّة الاجتياح نصبوا هناك مدفعاً مضاداً للطائرات، فكرة تبدو جنونية تماماً، وغير بعيد عنها “مقهى الجندول“.
وجدت نفسي واقفاً، في اليوم التالي، أمام شقة الدبّاغ. قرعت الجرس راجياً ألا يرد أحد، ولكن رجلاً نحيلاً وطاعناً في السن، انحني ظهره تحت ثقل سنوات كثيرة، فتح الباب. هذا هو، بالتأكيد، ينبغي أن يكون هو، ولم تسعفني سوى عبارة مرتجلة، لم أفكر بها من قبل، قلت: “أنا فلسطيني، وجئت للسلام عليك“. تكلل وجه الرجل بالضوء، ورد بابتسامة عريضة، وقد تنحى جانباً عن الباب لأتمكن من الدخول: “الفلسطيني للفلسطيني نسيب وقريب“.
أدخلني الرجل مُرحّباً وسائلاً ما إذا كنت أرغب في مشاركته القهوة، ولم تجد معه عبارات الشكر والممانعة: غاب في المطبخ وعاد بعد قليل بالركوة وفنجالين على صينية يحملها بيد مرتعشة، ليضعها على مائدة صغيرة، ثم جلس إلى جانبي. لا أدري كيف مر الوقت، فقد روى على مدار ساعات الكثير من القصص والنوادر والأحداث.
ومما علق في الذاكرة، من حكايات ذلك اليوم البعيد، التحاقه، مع “شباب من يافا“، كما قال، بالثورة العربية الكبرى. قال الدبّاغ: أفرد لنا الشريف حسين بيتاً في مكة، أقمنا فيه بعض الوقت، ولكن في عشيّة أحد الأيام طلب منّا شخص المغادرة على الفور، لأن أحد أحدهم عقد قرانه، ويحتاج البيت في ليلة الزفاف، فذهبنا إلى الشريف حسين، الذي اعتذر عمّا حدث، ونقلنا إلى بيت أفضل من الأوّل.
وتجدر الإشارة، هنا، أنه قبل الاستطراد في السرد رجاني ألا أبوح بمسألة البيت لأحد لأنها “تسيئ إلى صورتنا كعرب“. كان في حرصه على “الصورة“ ما يدل على نبل معنى العربي والعروبة في وجدانه، وتلك كانت سمة سائدة في أوساط قطاع واسع من جيل الاستقلاليين العرب بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ولم يكن ذلك المعنى النبيل الوحيد في وجدانه، فقد ذكر بعبارات لا تقبل التأويل، وبقدر واضح من الفخر، أن كل أعماله نُشرت “بأموال فلسطينية“، وأراني اسم الناشر على غلاف الموسوعة “رابطة الجامعيين في الخليل“، كما أراني مخطوطة كتاب غير منشور عن نباتات وأزهار فلسطين قائلاً أنه لن يسمح سوى لناشر فلسطيني بطباعته ونشره. ولا أعرف، اليوم، مصير الكتاب الأخير، فلم أره مذكوراً بين قائمة أعماله المنشورة، ولكنني تصفحته، ورأيته بين يديه.
سألته: هل يزورك أحد من الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين؟ قال: لا صلة لي باتحاد الكتّاب، ولكنني فوجئت بياسر عرفات “واقفاً على الباب“ ذات يوم، وحاملاً هذا الدرع، وأراني درعاً تزينه خارطة فلسطين على طاولة صغيرة.
ولعل في الطبعة الجديدة للموسوعة ما يشبه درعاً إضافية من جيل إلى جيل، والأهم أنه ليس شاهداً مِنْ، وعلى، زمن مضى، بل فيه، أيضاً، ما يسكن الحاضر، ويهجس بمستقبل في الانتظار.
الحقيقة التاريخية بشأن ما يطلق عليه فلسطين هي التالية : لم يكن هناك طوال التاريخ بلد إسمه فلسطين.. هذا الاسم هو تحوير لكلمة (بلستينيين)، وهي إحدى الأقوام التي استوطنت في الماضي هذه البقعة من الأرض، وقد كانت في حالة صراع مع اليهود كما ورد ذلك في التوراة وكتب التاريخ. وعليه فإن السكان الحاليين لما أصبح يطلق عليه فلسطين لا صلة تربطهم بالفلستينيين. السكان الحاليين لفلسطين ينقسمون الى قسمين : قسم من أصل كنعاني/ آرامي، والقسم الثاني عرب هاجروا إليها من الأراضي الصحراوية المحيطة. إضافة إلى أقلية يهودية هي من بقايا اليهود الذين استوطنوا هذه الأرض قبل ٣ ,آلاف سنة.