أما اللبناني فينشغل بتصيّد السلع، من أدوية وحليب أطفال، المفقودة والمغشوشة ويقف في الطوابير للحصول على فتات مقومات عيشه. وقبل هذا وذاك ينهمك بمتابعة أسعار الدولار (صعودا وهبوطا) وتسعير المنصة وسقوف السحب. أما الجشعون من تجار وضعاف النفوس من البشر فيتلّهون بتصريف دولاراتهم في السوق السوداء ويبدلونها بدولارات ما سمي منصة “صيرفة”، ويربحون بعض الدولارات التي تلبّي حاجاتهم إلى حين عملية أخرى مشابهة يسمح لهم بها حاكم مصرف لبنان.
في هذا الوقت، يتابع الانهيار تدحرجه وأموال المودعين ذوبانها ولبنان انحلاله.
وفجأة هبط علينا خبر قرب مجيء قضاة أوروبيين للتحقيق بملفات تبييض أموال وفساد بحق حاكم مصرف لبنان وبعض المسؤولين في عدد من المصارف. فدبّ النشاط وأفاقت “خلية الزلاقط”، وكانت البحصة التي عكّرت صفو بركتنا ذات الروائح الكريهة.
وهبّت الأفواه والأقلام: يا غيرة الدين، يضربون هيبة القضاء اللبناني ويمارسون الهيمنة الاستعمارية القضائية. وبدأ البحث في الخلفيات والحديث عن مخالفة الأصول والتداعيات. لبنان أمام غزوة استعمارية ويخضع لوصاية جديدة تتخذ وجها قضائيا.
أمام كل “توجس” يطال الطبقة السياسية – المالية، يرتفع عنوان “إشكاليات السيادة الوطنية”! وتبحث عن عقبات لتطويق البعثات القضائية ووضعها في خانة الضغوط السياسية، بعدما امتنعت طيلة أكثر من 3 سنوات إثر الثورة، عن اتخاذ أي إجراءٍ يحمي حقوق المواطنين ويصون مصالح البلد. واللافت أن “الثنائي المذهبي” تقدّم المعترضين من باب مزعوم برفض الوصاية الأوروبية على القضاء اللبناني.
ولأن المطلوب دفن آثار جريمة العصر، نعاين التجاهل الفاقع لواقع للتدخل العلني الذي قام به وفيق صفا لتهديد القاضي البيطار في السابق.
أما الفوضى التي تعم القضاء وسلوك المسؤولين اللبنانيين، وزيارة وفيق صفا لقصر العدل للضغط على القاضي بيطار، فلا تمس بسيادة أحد ولا تتسبب بالقضاء عليها نهائيا. ففريق الممانعة يتحدث عن مؤامرة قضائية أوروبية ستتجاوز ما له علاقة بتبييض الأموال وعمليات الاختلاس. وأن الاوروبيين يصرون “بشكل غريب” على إثارة ملف التحقيقات في جريمة تفجير مرفأ بيروت عبر “معبر” القضاء أيضا.
وكأن لبنان قام بكل ما عليه لتحقيق العدالة في تفجير المرفأ ولم يعطّل عمل قاضي التحقيق تحت ذرائع شتى، جميعها تدل على خلل في عمل القضاء.
في هذا الوقت الحرج، الذي يعْلَق فيه “حزب الله” أمام استحالة فرضه الحوار على الأطراف اللبنانية لفرض مرشحه الرئاسي، ويواجه اعتراضا متزايدا وصريحا من الشارع اللبناني، تكرّم علينا وزير خارجية إيران بكل هيبته بزيارة لم تكن في الحسبان؛ تاركا خلفه شعبا ثائرا وغاضبا ويفتقر هو أيضا إلى اساسيات حقوقه واحتياجاته؛ واعدا اللبنانيين بالمن والسلوى. فيا للتضحية الكبرى.
بعيد وصوله، شرب بعض القضاة حليب السباع وأوقفوا، وليام نون، المطالب بالعدالة لدم شقيقه ولجميع ضحايا انفجار المرفأ ومطالبا باستعادة ميزان العدالة اللبنانية الميت. جرم وليام نون أنه “هدد” بتفجير قصر العدل. وبعض من كان مسؤولا عن تفجير نصف مدينة بيروت وقتل مئات اللبنانيين وتكسير زجاج نصف المدينة، بما فيها نوافذ قصور العدل، احتفظ بوظائفه أو أعيد انتخابه نائبا أو بقي حرا طليقا.
يتم توقيف صاحب الحق في الوقت الذي يترك فيه المجرم حرا طليقا.
فقط “سرعة” تحرك الأجهزة الأمنية أثارت “إعجابنا”، خصوصا بعد أن عاينّا تقصير جحافلها، التي تمرجلت على متظاهري بلدات جبيل لتحرير وليام نون، في الجنوب وبطء حركتها في التحرك لاعتقال المعتدين على اغتيال عنصر دورية اليونيفيل؟!
النائب المحامي ملحم خلف أشار إلى “فخ قضائي” نصب لوليام نون لأنه لم يتم تبليغه، عندما كان في قصر العدل، أنه كان مطلوبا للتحقيق. وذلك كي يقبض عليه في اليوم التالي.
أما التحرّك الذي قام به أهالي الضحايا فكان على خلفية تعطيل اجتماع مجلس القضاء الأعلى الذي كان يريد تعيين قاض رديف للقاضي البيطار للفلفة التحقيق في ملف تفجير المرفأ والانتهاء من كل هذه القضية. علّق البعض: حول تهمة الاعتداء على “قصور للعدل”، أنها ليست قصور عدل، إنها قصور في العدل. أنه قصور في الأخلاق.
إنها ليست مسألة توقيف وليام نون فقط. إنها إشغال الناس بكل ما يخطر في بالهم لاستكمال إخضاع لبنان واحتلاله. إنه اعتداء على هوية لبنان.
زيارة عبد اللهيان تأتي في سياق تخوف كبير من مسار يبدو لهم بدأ في تدويل القضية اللبنانية. جاء لشدّ ركاب الخائفين والمقصّرين في المواجهة، من “حزب الله” أو من أتباعه.
من هنا “شجاعة” القاضي الذي لا يرد على أحد. إنه خلل بنيوي فيما كان يعرف بالجمهورية اللبنانية. المطلوب: إما الرضوخ وإما تفجير لبنان.
إنها لحظات مصيرية. وليس أمام اللبنانيين إلا الوقوف بشجاعة والنضال لتصويب مسار العدالة.