في كتابه، حيل التاريخ ، بمعنى مفاجآته، يتساءل مارك فيرو: من كان ينتظر نهضة للإسلام، بشكله الأكثر راديكالية، كغازٍ؟
استتبعت انهيار الإمبراطوريات الإسلامية فترة من الركود الثقافي المستمر حتى الآن. فلم يحصل أي بلد إسلامي على جائزة نوبل في العلوم أو أي نجاح علمي. كما لم ينجح في تحرير فلسطين. إنه الهوان.
وعى الإخوان المسلمين تردي الإسلام، لكنهم عاينوا كيف يدمر العالم الغربي نفسه في الحربين العالميتين، وكيف يضعف جراء خسارة امبراطورياته. فتساءلوا: ألم تَحِن عودة الإسلام؟ أفلم يسبق أن سيطرت عوالم الإسلام على الذين عادوا واستعمروهم؟ فكيف أصبحنا عبيد من استعبدناهم؟
تجاهل الغربيون بوادر هذه العودة. فكرة عودة الدين غداة الحرب العالمية الثانية لم تكن لتخطر ببال. ولم يخطر يوما ببالهم أن يحكم عليهم الإسلام كمنحلّين، وأن يميز عودته الثأر.
وجد الإخوان الترحيب في بعض إمارات الخليج بمواجهة هيمنة عبدالناصر. ثم جاءت ثورة الخميني التي استُقبلت كسلطة تريد أن تبني دولة في مواجهة الإمبريالية. لكن تبين أنها تبني دولة في خدمة الإسلام.
منذ العام 1983 تلاحقت العمليات الانتحارية ضد المارينز والسفارة الأميركية في بيروت. وفي 25 أغسطس من العام 1996 لم يفهم الأميركيون أن أسامة بن لادن أعلن الحرب. وعنى الهجوم على السياح في الأقصر، أن قطاع السياحة بات مهددا بالانهيار، إلى أن نظمت شبكة الجهاديين النائمين للقاعدة، في العام 2001، عملية برجي التجارة التي لا يتخيلها عقل.
انتبه العالم أمام هذه التفجيرات التي أثارت القلق، من مخاطر عسكرة الحياة العادية. وتزعزعت المؤسسات والدساتير الديموقراطية وتقلصت دائرة القانون لتفسح المجال أمام تحول الدولة إلى حالة الاستثناء والطوارئ. فعندما أصبحت الراديكالية في أصل الإرهاب، صارت مدعاة للاستنفار. وارتفع مفهوم الراديكالية إلى مستوى قوة استنهاض عالمية للإرهاب. فولدت صورة الإرهابي الراديكالي الشامل كفرد وانفتح خطابا كونيا حول الإرهاب والسياسة للسنوات القادمة.
يعتبر فرهاد خسرو خافار أن مفهوم الراديكالية في علم الاجتماع غيّر النظرة إلى الإرهاب. فبعد أن كان يركز على دراسة المجموعات التي تستخدم العنف الايديولوجي ومعناه السياسي والاجتماعي؛ أدخل مفهوم راديكالية الأفراد في الاعتبار، ذاتياتهم وسيرهم وتفاعلاتهم مع المجموعات التي ينتمون إليها. صار الالتماس يتتبع سيرورة تاريخهم الشخصي الذي أوصلهم إلى العنف. وكيف علينا أن نفكر بالرغبة التضحوية التي تملكت عددا لا يستهان به من الشباب باسم الإسلام؟ ما الذي أمسك بهم وجرّهم نحو الأسوأ؟
حاول فتحي بن سلامة في كتابه “الرغبة الغاضبة بالتضحية” ، أن يقدم تأويلا لمفهوم الرغبة بقتل النفس يتمحور حول مركز جاذب سمّاه المسلم الأعلى على غرار الأنا الأعلى الفرويدي.
واستفاد من تجربته العيادية كمعالج نفسي، لفهم هذه الظاهرة، لأنها تسمح باستكشاف القوى الفردية والجماعية للنزعات المعادية للحضارة في قلب الإنسان المتحضر وأخلاقياته.
إن تعيين مفهوم “المسلم الأعلى” يكتسب هنا قيمة تشخيصية للخطر الذي يتعرض له المسلمون وحضارتهم، بعد أن تحولت الراديكالية إلى عارض نفس – اجتماعي يشكل تهديدا جدياً. عاين بن سلامة ظهور طيف المسلم الأعلى خلال ممارسته العيادية في منطقة فرنسية.
راقب على مر السنوات تصاعد عذاب، عُبِّر عنه بـ”لستُ مسلما بما فيه الكفاية”، الذي قادهم إلى تكوين “إيمان حارق”، يدفعهم للمطالبة باسترداد عدالة تبلسم ندوبهم الهوياتية، التي تبلورت على شكل “جرح المثال الإسلامي” المحتاج إلى الترميم، أو حتى الثأر.
عند تحليل خطاب الإسلاميين الراديكاليين، الذي تمت ترجمته بلغة النظريات السياسية المعاصرة، تم تناسي أن هدفه الجوهري هو فبركة قوة فوق – دينية تعقد صلة مع المقدس الأثري والأضحوي ولو أنها تلجأ الى التقنيات الحديثة. هذه الصورة نتاج واعٍ و لاواعٍ لقرن من الإسلاموية.
هذا الجرح الهوياتي أو “المثال الإسلامي المجروح” يرتكز على ما ارتكب من إساءات في الماضي وفي الحاضر. وخصوصاً خسارة مبدأ السيادة السياسي – التيولوجي لعموم المسلمين منذ أن ألغيت الخلافة عندما تفككت السلطنة العثمانية في العام 1924. ويسجل في هذا السياق أن حركة الإخوان المسلمين تأسست في العام 1928. بحيث يمكن القول أن الحركة الإسلامية ولدت من « تروما » تلك الصدمة التي انتشرت كالموجة بين الحشود. أما الإساءات الممارسة ضد المسلمين فتمتد من الحروب القديمة إلى حروب الشرق الأوسط وفلسطين وأفغانستان ومن ثم العراق.
لكن العرض الجهادي تتراكب فيه الإساءة الجماعية للمسلمين مع تلك الفردية للراديكالي.
لقد حررت الحروب والصراعات التي اجتاحت قسما كبيراً من العالم الإسلامي قوى هدامة ملأت مسرح الواقع قسوة وعنفا ودمارا وأفرزت ضحايا وجلادين، أبطالا وخونة، إرهابيين ومروّعين، وأنتجت خصوصاً الفاعل الأكثر إرعابا ألا وهو الشهيد ذو القدرة التهييجية الكونية.
الذين قابلهم بن سلامة في عيادته ممن تبنوا فجأة خطابا فوق – إسلامي ، كانت تحركهم رغبة في التجذر، أو في استعادة التجذر، في السماء عند استحالة ذلك على الأرض. لأن كل شيء في العالم الذي يعيشون فيه يشهد على لا تجذرهم بمعنى اقتلاعهم: تاريخهم الأسري ومنظر المدينة وانعكاس صورتهم ومستقبلهم من دون أفق. بهذا المعنى يمكن فهم الراديكالية كعارض للرغبة في التجذر لمن فقدوا جذورهم أو أنهم يعيشون الأمر كذلك. يعيد الالتحام بجماعة من النظراء تلحيم الأجزاء المهددة من الأنا عبر عيش نفس الانفعالات في نفس الوقت.
لاحظ بن سلامة عند عدد من الشبيبة الذين تابعهم، أن فترة من اللامبالاة والاكتئاب ومشاعر عدم اكتفاء وشعور بالعار واعتبار أنفسهم نكرة سبقت اندفاعتهم الدينية. أي باختصار معاناة ألم وجودي يتماشى مع ما أُطلق عليه “اكتئاب الدونية“. وعندما يحصل اللقاء مع الدين، ينطلق مصعد النرجسية، فلا يعود الشخص ساكنا لشقة تبعث على الازدراء ولا حبيس تقاطعات مسدودة الأفق ولا يضلله صمت الاهل. بل يقبع في اعلى طابق من التجاوز متأملا البشر في الاسفل بشفقة تقترب من الازدراء.
يضاف شروط أخرى، عند المرور بالمراهقة (التي قد تطول أو تتأخر) تظهر عند الشخص قطيعة تهدد استمرارية وجوده التي تصبح فجأة فاغرة فاها لدرجة قد يسقط فيها. عليه إذن أن يقوم بقفزة فوقها أو أن يجد ما يساعده على تخطيها كي يجد الخلاص. بالطبع كلما زاد التهديد يصبح التجذر في السماء مصدرا أكبر للمتعة وللحماسة. إن اللجوء إلى خطاب ديني متشدد يعطي كينونة للوجود المقطوع أو المهدد بذلك.
عرض الراديكالية يلبي طلبا في حالة الهشاشة الهوياتية ويحولها إلى درع صلبة. وعندما يتحقق الظرف المناسب تمتلئ النواقص وتتم تغطيتها. هذا ما يهدئ القلق ويعطي شعورا بالانعتاق وزخما من القوة العظمى. يصبح آخر، يختار اسما جديدا ويتبنى سلوكا مشابها لسلوك جماعته. من هنا تشابه خطابات الراديكاليين وكأنهم شخص واحد، ويعود هذا إلى التنازل عن جزء كبيرا من فرادتهم: يتنازل الشخص للآلي. ويساعده التخلي عن فرادته بالتخلص من عوارضه بمقدار ما أن هذه العوارض النفسية مترابطة مع خصوصيات الشخص. تتحول العوارض الى تشكل نفسي جماعي: هلوسات لمجموعة ومضاعفة الطقوس مع عدوى محاكاة التصرفات وايحاء وطاعة عمياء.
انطلاقا من هذه الثوابت – السياق الجغراسياسي والإطار الاجتماعي والتشكيل النفسي إضافة إلى لقاءات الصدفة والالتحاق بمجموعة، تبدو الراديكالية كتكثيف لحتمية ذات مصادر متعددة.
هذه الراديكالية تشكل خطرا عشوائيا متربصا يهدد بموت من دون اسم محمولا بتعبير “الإرهاب الأعمى”. يريد هذا الإرهاب أيضا أن يدخل مجال رؤيتنا ليعرض نفسه أمامنا. فلا يكتفي باستعراض أفعاله، بل يريد إدخالنا في مشهد القسوة الذي يحققه. كان الظواهري قد رفع شعار “الجهاد الإعلامي هو نصف المعركة”. نوافذ الرعب الإعلامية الواقعية هذه ضاعفت الرعب و التروما. إن القدرة على الجمع بين العنف الأعمى وجعله مرئياً يزرع الذعر على مستوى واسع من شانه أن يساهم في صعود التطرف لمن يطمحون في إدارة الموت. الانتحار الإعلامي والمشهدي يزيد من قدرة وقوة الجلاد. حتى وقت قريب كان القتلة يخفون جرائمهم وينكرونها.
لكن الإرهاب الديني الحالي يهدف عرض قوة تدميرية لا تهاب شيئا، ويمكنها أن تكبد ضحاياها عنفا وسوء معاملة كما يحلو لها دون حدود، من أجل الإيحاء بأنها لا تخضع للعدالة الإنسانية. إنها خاضعة فقط أمام الله، زاعمة أنها من يقيم العدل باسمه. عندما يصبح الله حياً بين أيدي البشر، يتهيأ لهم أن لا شيء مستحيل أمامهم.
monafayad@hotmail.com
الحرة