تمريرة زكّا في رفضه تلاوة فعل الشكر للحزب الإلهي، أتبعها باستدراك بأنه يشكر كل لبناني ساهم في إطلاق سراحه.
لكن ما قيل قد قيل، ولا يحتاج إلى الاجتهاد والتأويل. فكثيرون في لبنان لا يعتبرون الحزب لبنانياً، ويصنّفونه ذراعاً للحرس الثوري العصيّ على دولته. ولمن نال الصدأ من ذاكرته، تاريخ الحزب بدأ خلال الحرب الأهلية اللبنانية بخطف الرهائن خدمة لنظام ولاية الفقيه ونظام حافظ الأسد، بالتالي لا يمكن للرهينة شكر طرف يشكّل جزءاً لا يتجزأ من منظومة خاطفيه.
مشهد زكّا وهو يتحدث عن معاناته، نظراته، والتوتر الظاهر في حركات يديه، وارتجاف صوته وغصته، واختناقه بالعبارات المبتورة خلال المقابلة، كلها لا تختلف عن مشهد الناجين من الخطف على يد الحزب بعد انتهاء ملف الرهائن مطلع تسعينيات القرن الماضي، خلال مقابلات لهم، وبعد سنوات من اختطافهم.
أحد هؤلاء الرهائن، كان تيري أندرسون، كبير مراسلي الشرق الأوسط لوكالة “أسوشيتد برس” وصاحب أطول فترة احتجاز، قال لي إنه قابل حسن نصرالله بعد إطلاقه، وسأله لماذا خطفه “حزب الله”، فأجابه نصرالله أن مثل هذه الأمور تحصل في الحروب.
لكن الحزب ومن خلفه مُشَغِّلُه، لم يتوقّفا عن إشعال الحروب حيث تستدعي مصالح أجندة الممانعة ذلك، ولا ضير لديهما في الخطف حتى بعد انتهاء الحروب، وإلا أين جوزف صادر الذي تبخرت أخباره في الضاحية الجنوبية لبيروت؟
لذا يدرك زكّا أن الفرق بينه وبين الرهائن الأجانب القادرين على التحدث بحرية أكبر، أنه لبناني، وعائلته في لبنان ولا يريد أن يقطع كل صلة له بلبنان، لذا اختصر بالـ”PASSE”، الكلام الذي قد يشكّل خطراً على حياته إن باح به. لعله في قرارة نفسه يعرف أن الشكر اللفظي الذي وجّهه إلى غير المعنيين فعلاً بإطلاقه، ولا يخرج عن الفولكلور اللبناني ومزايداته ليندرج في إطار الخطة التي لا بدّ منها لاستكمال السيناريو الظاهر لما هو باطن في أسباب خطفه وأسباب إطلاقه. ولعله سيمعن في الصمت بعدما صرّح أحد المسؤولين الإيرانيين بأن “زكّا عميل أميركي ولدينا الأدلة على عمالته”، وذلك في تهديد بأن يصمت. ففي النهاية ليس مهمّاً أن الرهينة حرص على الفصل بين النظام الإيراني وحرسه الثوري.
هو التزم السيناريو، ومرّر ما يجب أن يمرّ، تحديداً لأنه اختبر أساليب الخطف والاعتقال، ولم يشعر بأنه نجا بالمطلق، ما دام المحور الذي خطفه لا يزال قادراً على تصفيته، إذا استدعت مصالحه ذلك.
الخلاصات التي يمكن استخلاصها من المحنة الرهيبة التي مرّ بها زكّا، تتجاوز التجربة الخاصة التي لا يحق لأيٍّ منا أن يحمِّلها أحكامه المسبقة، لتنتقل إلى تجربة وطن وإقليم، وتؤكد أن الفرد مرغم على استخدام حق الـ”Passe” ليحمي نفسه، ما دام القيّمون على مصيره وسيادته اعتمدوا سياسة الـ”Passe” في التغاضي عن الدويلة داخل الدولة، ما أدى إلى تمدد الدويلة وابتلاع الدولة وتحويلها مكتب خدمات وسمسرات.
تمريرة زكّا غير المقصودة أو المقصودة والمستدركة، يمكن تعميمها على كثير من وقائع حياتنا السياسية اللبنانية الرهينة بدورها للحرس الثوري الإيراني المتباهي بأنه يسيطر على لبنان، والتعامل مع ذراع هذا الحرس بالفصل بين لبنانيته وتبعيته، يوازي التخدير الرامي إلى الكذب على الذات.
مفاعيل الـ”Passe” على الفرد محدودة ومحصورة آثارها الجانبية، أما على بلد بكامل مؤسساته، فحدِّث ولا حرج، لأن الآتي أعظم.
sanaa.aljack@gmail.com