بين فترة وأخرى، خلال السنوات الخمس المنصرمة، تستثير الأحداث التي تعصف بمنطقتنا أصواتاً عربية تعرض على القارئ تساؤلات مثل «أين الأسرة الدولية، ولماذا لا تُحرّك ساكناً لوقف هذا النزيف في سورية وفي غيرها من أقطار هذه البقعة من الأرض؟».
إنّ استخدام مصطلح مثل «الأسرة الدولية» يشي بأنّ مُطلقه ينطلق في إصدار أحكامه وتساؤلاته من قناعة بانتمائه وانتماء من يحاول التحدّث باسمهم إلى «أسرة»، «عائلة»، أو مجموع بشري ذي أواصر قربى بما تحمله هذه المصطلحات من معانٍ.
غنيّ عن التأكيد هنا أنّ الانتماء إلى هذه «الأسرة» الدولية لا يمكن أن يأتي من طرف واحد. إذ إنّ معنى الانتماء يتطلّب إجماعاً من طرفين: من طرف طالب الانتماء وطرف المُنتمَى إليهم. هذا الإجماع مشروط بقواعد تضبطه وتضبط أطرافه على غير صعيد.
إنّ العواصف الأخيرة التي شهدتها المنطقة مع ما خلّفته من سفك لا يزال متواصلاً للدماء كشفت أيضاً على الملأ كلّ هذا التخبّط في الخطاب العربي الموجّه إلى الداخل والخارج على حد سواء. فعلى الصعيد الداخلي، وأعني به الخطاب العربي الموجّه إلى الرأي العام العربي، لم نلاحظ أنّ ثمّة «أسرة» عربية واحدة تلتقط هذا الخطاب وتستوعبه. لقد كشف هذا الخطاب عن حقيقة الشرذمة الإثنية والطائفية التي تنخر هذا المجموع البشري الذي درجنا على أن نطلق عليه مصطلح الانتماء إلى هذه «العروبة».
هكذا لاحظنا، في الكثير من الأحيان، أنّه وعلى رغم تغليف الكلام بكلام معسول وبلاغة عربية عن ممانعة ومقاومة وكسر شوكة الإرهاب من جهة، أو نشدان الديموقراطية والحرية والمواطنة من جهة أخرى، كانت المواقف المُعلنة تشي بانتماء صاحبها ليس إلى مجموع بشري واحد، أسرة أو عائلة عربية واحدة، بل إلى «قبيلة» لها ميراث طائفي هو في جوهره اختلافي غير ائتلافي، وذلك على غالبية الأصعدة الاجتماعية منها، والسياسية والثقافية والطائفية.
بكلمات أخرى، إنّ الخطاب الأيديولوجي المعسول، أصدر عن هذا الطرف أو ذاك، لم يعد ينطلي على أحد من أبناء هذه الأقوام المسمّاة «عربيّة». إذ إنّ الشرخ الإثني والطائفي هو الّذي كان المحرّك لاتّخاذ المواقف، وهو الّذي كان يتبدّى للقارئ وللمستمع على طول هذه الأرض وعرضها.
لقد ظهر هذا الشرخ أيضاً في كلّ ما يتعلّق بمخاطبة العرب سائر العالم. إذ مرّة أخرى انكشف على الملأ أنّ ثمّة أصواتاً كثيرة بنبرات مختلفة تعبّر عن جوهر هذا التخبّط. فمن جهة، الكثيرون من أولئك الذين طالما شنّفوا آذاننا بمطالبة العالم، ويقصدون به القوى العظمى والغربية على وجه التحديد، بعدم التدخُّل في شؤون هذه المنطقة الداخلية، أضحوا بين ليلة «ربيع عربيّ» وضحاها من أكثر الصّائتين المطالبين بتدخّل تلك القوى في شؤون هذه المنطقة النازفة. هكذا فجأة تتحوّل قوى الاستعمار الغربي إلى «أسرة» واحدة مطالَبة بوضع حدّ للنزيف داخل هذه «العائلة» الدولية التي يدّعون الانتماء إليها.
ومن جهة أخرى، كشفت الأحداث التي مرّت بها هذه المنطقة زيف شعارات كلّ أولئك الذين، وعلى مرّ عقود، أدمنوا إثارة عواطف الأجيال العربية الناشئة، بدءاً بمقولات الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة، مروراً بالاشتراكية والديموقراطية، وانتهاءً بالمقاومة والممانعة، وما إلى ذلك من هذه البلاغة البليدة التي كانت بمثابة أفيون تزوّده هذه الأنظمة والأيديولوجيات الكاذبة للأجيال العربية. لقد تلقّفته هذه الأجيال حتّى أضحى نقمة عليها وعلى بيئتها، وصار من الصعب عليها عدم تناول هذه الوجبات اليومية من المخدّرات البلاغية العربية.
أين هي الأسرة الدولية؟ يتكرّر هذا السؤال لدى الكثيرين من أمثال هؤلاء. مرّة أخرى، كلّ هؤلاء الذين طالما علا صراخهم محيلين السامعين إلى مؤامرات القوى الغربية، يطالبون الآن هذه القوى، «الأسرة الدولية» كما يسمّونها، بأن تتدخّل. لكنّ كلّ هؤلاء يتهرّبون من طرح السؤال الأصعب، ألا وهو: أين «الأسرة العربية»؟ أو ليست لهذه «الأسرة» دول وجيوش جبّارة؟ فلماذا لا تتدخّل جيوشها لوقف هذا النزيف؟
لا يوجد على الكلام جمرك، كما يقال في أمثالنا الشعبية. وهكذا ألفى المواطن العربي ذاته هائماً على وجهه في خضمّ ما أفرزته الجرائم المتبادلة بين أقوام هذه البقعة من الأرض.
وليس من السهل الخروج من هذه المآزق العربية. كلّ من يعتقد أنّ نفسيّات البشر الذين مرّوا بهذه المآسي التي خلّفت مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين والمهجّرين من أوطانهم وبلدانهم، قد تتعافى قريباً مُخطئ بالطبع. لا تمّحي هذه الكوارث بين ليلة وضحاها وكأنّ «اللّي فات مات».
لقد انتهى عهد في هذه البقعة من الأرض. لن تعود هذه الكيانات بناسها إلى سابق عهدها وعهدهم. إنّنا بلا شكّ على عتبة عهد جديد لا يمتّ بصلة إلى كلّ ما عرفناه عن هذه المنطقة. وما علينا إلّا تلمّس طريق النجاة بأقلّ الخسائر البشرية، لأنّ الإنسان في نهاية المطاف هو هذه الأوطان الممزّقة.
* كاتب فلسطيني