لم يكن الخطاب الأخير لحسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان سوى حلقة أخرى في سلسلة احداث مترابطة تستأهل التوقّف عندها. تصبّ هذه الاحداث، بمنطقها المتماسك، في تأكيد ان لبنان تحت سيطرة الحزب وانّ عهد ميشال عون وجبران باسيل هو “عهد حزب الله”.
لم يعد لبنان سوى ورقة إيرانية تستخدم في لعبة التجاذبات الدائرة في هذه المرحلة بين “الجمهورية الاسلاميّة” والادارة الأميركية الجديدة. يتبيّن يوميا انّ إدارة جو بايدن تربط بين رفع العقوبات عن ايران من جهة وإعادة الحياة الى الاتفاق في شأن الملفّ النووي من جهة أخرى. لكنّ مشكلة ايران تكمن في انّ هذه العودة، كذلك رفع العقوبات، لا يمكن عزلهما عن الصواريخ الباليستية الإيرانية وسلوك “الجمهورية الاسلاميّة” خارج حدودها.
بعدما أبدت ايران انزعاجها الشديد من سقوط رهانها على الإدارة الأميركية الجديدة، لجأت الى التصعيد. التصعيد الإيراني في كلّ مكان، خصوصا انطلاقا من اليمن حيث يتأكد كلّ يوم ان الحوثيين ليسوا سوى أداة إيرانية.
امّا في لبنان، وفي ضوء غياب أي قدرة على أيّ تحرّش بإسرائيل، نجد التصعيد الإيراني على لبنان واللبنانيين داخل ما بقي من بلد انهار كلّيا بعدما تبيّن ان لا مجال لتشكيل حكومة جديدة فيه.
ليس سرّا ان المطلوب تشكيل حكومة لبنانية بمواصفات معيّنة، حدّدها الجانب الفرنسي الحريص فعلا على لبنان. حكومة تستطيع التعاطي مع صندوق النقد الدولي، لعلّ وعسى يحصل البلد على مساعدات. لا يمكن لهذه المساعدات ان تأتي في غياب الاستجابة لشروط معيّنة لا شكّ انّ تطبيقها سيكون صعبا في غياب رئيس للجمهورية ورئيس لمجلس النوّاب ورئيس لمجلس الوزراء يتمتعون بحدّ ادنى من الحسّ الوطني والشعور بالمسؤولية واستيعاب لما حلّ فعلا في لبنان وما آل اليه البلد.
ليس ما يشير الى من يريد استيعاب ما يدور على الأرض في لبنان. يؤكّد ذلك نكتة سمجة لمستشار في رئاسة الجمهورية، هو في الحقيقة مستشار لجبران باسيل، قال ان ميشال عون طلب من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التدخل من اجل لجم ارتفاع سعر الدولار الأميركي في مقابل الليرة. يصعب التفوق على مثل هذا النوع من السماجة التي تختلط بالجهل في آن. يفترض في من يريد من حاكم مصرف لبنان التدخل في موضوع انهيار العملة الوطنية المساعدة في تشكيل حكومة اختصاصيين تؤمن دخول الدولار الى لبنان. ليس ما يوقف انهيار الليرة اللبنانية غير تدفق الدولارات. لن يأتي دولار واحد، لا من العرب ولا من المؤسسات الدولية، في غياب حكومة تنفّذ إصلاحات محدّدة. لا تستطيع القيام بهذه الإصلاحات سوى حكومة تضمّ اختصاصيين وليس أشخاصا يعانون من فجع وجوع مزمنين، من النوع الذي يعاني منه الذين أولئك الذين تولوا وزارة الطاقة منذ 12 عاما وينتمون الى ما يسمّي “التيّار العوني”. هؤلاء رتبوا زيادة خمسين مليار دولار على خزينة الدولة، وبالتالي على الدين العام، ولم يؤمّنوا الكهرباء. لا فضيحة اكبر من هذه الفضيحة باستثناء فضيحة الصمت إزاء انهيار النظام المصرفي اللبناني الذي لا يمكن ان تقوم له قيامة في يوم من الايّام؟
لم يتردّد حسن نصرالله، الذي لا يمتلك حلّا لأي مشكلة يعاني منها لبنان، في تحديد مواصفات الحكومة التي كان مفترضا ان تتشكّل قبل اشهر عدّة، بعيد تكليف سعد الحريري هذه المهمّة اثر حصوله على أكثرية نيابية مؤيّدة له. اصرّ على ان تضمّ الحكومة سياسيين الى جانب الاختصاصيين. يمكن لمثل هذا الطرح ان يكون منطقيّا لو كانت هناك فائدة من حكومة تضمّ سياسيين واختصاصيين في الوقت ذاته. كلّ ما في الامر، ان الأمين العام لـ”حزب الله” لا يدري انّ لا فتح النار على الجيش، لانه لا يفتح الطرقات، ولا الحملة على مصرف لبنان (المصرف المركزي) تنفعان في شيء. كذلك لا ينفع التهديد بتعويم حكومة حسّان دياب المستقيلة ولا تهديد المتظاهرين الذين يعبّرون عن حال الغضب في بلد يسير على طريق فنزويلا.
الأكيد انّه لن ينفع لبنان الاستعانة بالصين ولا بالعراق ولا بايران. لو كانت الصين مهتمّة بلبنان، لكانت باشرت في اغراقه باللقاح المضاد لفايروس كورونا (كوفيد – 19). قبل الكلام عن التوجّه نحو الصين، يبدو ان ثمّة حاجة الى التأكيد لحسن نصرالله ان العلاقات اللبنانية- الصينية قديمة وهناك رجال اعمال لبنانيون يعرفون الصين جيّدا ويتعاملون معها منذ عقود عدّة. الصين ليست جمعية خيرية. عندما تجد مصلحة لها في لبنان، لن تحتاج الى دعوات من حكومة لبنانية ولا الى نداءات يطلقها “حزب الله”.
بعض التواضع ضروري اكثر من ايّ وقت. الناس تجوع في لبنان الذي يعاني اكثر من ايّ وقت من سلاح “حزب الله” ومن العزلة التي فرضها الحزب المسلّح على البلد، خصوصا منذ فرضه ميشال عون رئيسا للجمهورية. التواضع ضروري من اجل ادراك ان الشعارات لا تعني شيئا بمقدار ما انّها تغرق لبنان اكثر في أزمات ليس في استطاعته الخروج منها من دون حكومة. الحكومة التي يمكن ان تصنع الفارق هي حكومة اختصاصيين من النوع الذي قدّمه سعد الحريري الى رئيس الجمهورية الذي يعتقد ان الوقت مناسب للمزايدة مسيحيا. لا يدري ميشال عون ان هذه الورقة لم تعد تفيد في شيء. يمكن لهذه الورقة ان تستخدم في تأخير تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري او منع تشكيل مثل هذه الحكومة لا اكثر. نعم، يمكن ان تصلح هذه الورقة لاستخدام ما. في الواقع، يمكن ان يستخدمها “حزب الله”، وهو ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني من اجل إيجاد غطاء لسياساته المعروفة والتي هي جزء لا يتجزّأ من المشروع التوسّعي الإيراني. الأكيد ان لا مصلحة للبنان واللبنانيين في ذلك.
للمرّة الالف لا مصلحة للمسيحيين في الاعتقاد في انّ في استطاعتهم استعادة حقوقهم، هذا اذا كان من حقوق مطلوب استردادها عن طريق سلاح “حزب الله”. سلاح “حزب الله” سلاح إيراني موضوع في خدمة “الجمهورية الإسلامية” وليس المسيحيين في لبنان وغير لبنان…
كلّ ما تبقى تفاصيل وثمن غال الى درجة كبيرة والى ابعد حدود سيدفعه لبنان واللبنانيون عموما والمسيحيون خصوصا من لحمهم الحيّ ومستقبل أولادهم!