كما في حالات الربيع العربي عند انطلاقتها (قبل تشويهها من تجار السياسة والدين)، يعتبر جنين الربيع اللبناني في آب حركة غير أيديولوجية لشباب يسكنهم الحنين للوطن والحرية والعدالة.
في التاسع والعشرين من أغسطس الماضي، عانق شباب لبنان الأمل بإمكان إنقاذ الدولة من نظام أطبقت عليه الطبقة السياسية من خلال نظام محاصصة تميّز بنهب المال العام.
للوهلة الأولى، تشكل تظاهرة ساحة الشهداء (ساحة البرج سابقا) في وسط بيروت منعطفا لجيل جديد من الطبقة الوسطى، أطلق ديناميكية تغيير تأسيسية للمجتمع المدني بعيدا عن سطوة الارتباطات الطائفية وأحزاب النظام.
للوهلة الأولى، تستعيد ساحة الشهداء لحظة شبيهة بالرابع عشر من آذار 2005، لكن هذه المرة دون قيادة سياسية تقليدية، ومع افتراض تكوّن وعي المواطنة وولوج باب السياسة بأثواب جديدة.
للوهلة الأولى، لحظة الجمع الشبابي العابر للطوائف والمناطق، تشبه لحظة الثورة البيضاء ضد الفساد في دير القمر في 1952.. وهذا يعني أن لبنان، ما قبل اتفاق الطائف وما بعده، قد ابتلي بآفة الفساد، لكن السيل بلغ الزبى مع أزمة النفايات هذا الصيف، التي أسقطت كل أقنعة الطاقم السياسي الذي أثبت عجزه عن القيام بوظائف المرفق العام، كما فشل في ملء الفراغ السياسي (رئاسة الجمهورية شاغرة منذ مايو 2014) ومع الإقرار بأن ذلك يرتبط بتجاذبات خارجية، لكنها لا يمكن أن تحجب العجز والعقم وشهوة الحكم والاستحواذ عند الكثير من كبار القوم.
للوهلة الأولى، القوى الطائفية لم تكن سيدة الموقف، وتمكن الشباب من تجاوز الانقسام العمودي المتكون منذ 2005 بين 8 و14 آذار. للوهلة الأولى تقود بعض البورجوازية المدنية وبعض الطبقة الوسطى تحركا احتجاجيا ضد الفساد وضد الحرمان بالرغم من أن جماهير الفقراء ومهمشي الأطراف، وهم الأكثر تضررا، لم يكونوا على الموعد.
للوهلة الأولى، لا يمكن إنكار تاريخية اللحظة، لكن يجب مقاربتها بتأن وعمق حتى لا تضاف إلى مسلسل الفرص الضائعة.
بعد الغبطة بحصول مهرجان جمع غالبية الألوان اللبنانية أواخر أغسطس 2015، يأتي وقت الأسئلة وبعضها محق وأكثرها غير بريء. من الملاحظ بعد رفع المنظمين شعار “كلهن يعني كلهن” في معارضتها لكل أهل الحكم، سرعان ما بدأ السعي للاحتواء وأخذ التيار الوطني الحر قرارا بتحرك مستقل، لأن الجنرال ميشال عون استنكر تعميم التهمة بالفساد وله أجندته الخاصة، أما حزب الله، وعلى لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد، فقد أطلق حملة التشكيك متسائلا حيال قيادة الحركة ومآلها، ووصل التخبط إلى مدى آخر عندما اضطر رئيس كتلة المستقبل ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري إلى تكذيب وزير الداخلية نهاد المشنوق عضو كتلته الذي انبرى لاتهام إحدى الدول العربية بالوقوف وراء التحريض على التظاهر وتمويله. وحده رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط حاول التمايز داعيا للحوار مع الحراك الشبابي. لكن في الإجمال تجمعت الطبقة السياسية وراء مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحوارية من أجل إخراج المؤسسات من الشلل، ومحاولة الحد من اندفاع وديناميكية شارع 29 أغسطس.
بيْد أن الأخطر من المسعى الرسمي بدء التفتت والانقسام ضمن المجموعات الداعية للتحرك نتيجة دخول بعض الأحزاب والمتسلقين على الخط من أجل تجيير الحراك كي ينحرف عن أهدافه الأساسية. أخذ البعض على حراك الشباب عدم دعوته للتصدي إلى سلاح حزب الله والسلاح في لبنان بشكل عام، لكن من يجلس إلى جانب حزب الله في حكومة المصلحة الوطنية يصعب عليه توجيه اللوم لشباب غير مسيّس أو غير أيديولوجي.
كما في حالات الربيع العربي عند انطلاقتها وفي مرحلتها العذرية (قبل تشويهها من تجار السياسة والدين وقوى الثورة المضادة)، يعتبر جنين الربيع اللبناني في آب اللهّاب حركة غير أيديولوجية بامتياز لشابات وشباب يسكنهم الحنين للوطن والحرية والكرامة والعدالة. ومن هنا لا يمكن أن يتم تحميل هذه الحركة أكثر مما تحتمل، أو ربطها بمسارات الفوضى غير الخلاقة في الإقليم.
حتى لا تضيع هذه الفرصة النادرة في مسعى الشباب ليكونوا مواطنين وليس كائنات طائفية، يتوجب إبعاد الخطاب الديماغوجي والراديكالي، ويتوجب عدم الاستمرار في إنتاج مجموعات جديدة كي تذوب مجموعة “طلعت ريحتكم” ويسهل التحكم بقرارها.
من الدروس التي يتوجب استخلاصها من مغامرات وأخطاء الأجيال السابقة وموبقات الحرب التدميرية النقالة وممارسات المحاصصة على حساب الدولة، أن لبنان ليس بلد الثورة والتغيير الحاد لأن تركيبته هشة وتوازناته دقيقة. لبنان الفريد في محيطه بتركيبته التعددية ووحدة شعبه الإنسانية هو بلد التسوية المتجددة، وهي مهما كانت بطيئة وصعبة المنال أفضل من العنف وتداعياته والحرب الأهلية.
إن لبنان المنقسم بين محورين إقليميين لا يمكن فيه ممارسة الغلبة والإقصاء ولذا لا بد للشباب الذي يبغي التغيير أن يتمتع بالواقعية وينطلق في برامج مرحلية تجمع ولا تفرق.. من الأمثلة الملموسة منح اتحادات البلديات الصلاحيات والإمكانيات لإدارة النفايات والكهرباء والمياه. أما الجدل حول إحلال الانتخابات النيابية قبل الانتخابات الرئاسية، فيهدف إلى انحراف الحراك الشبابي عن هدفه المواطني والإصلاحي.
ويكون الأجدى في توليف تسوية شاملة تحصّن الكيان اللبناني من التداعيات المحتملة لإعادة تركيب المنطقة، ومن هنا يمكن طرح التوافق على رئيس جمهورية وقانون جديد للانتخابات في آن معا. إذا نجح الشباب في توجيه ضربة ضد الجدار الطائفي السميك ونظام المحاصصة، يكون حراكهم منتجا ولا يدخل في مسلسل الفرص الضائعة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس
العرب