بمجرد الإعلان عن إحتمال عقد لقاء قمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” في شهر مايو المقبل فرح الكثيرون وتنفسوا الصعداء ولكأنما أزمة كوريا الشمالية مع نفسها ومع المجتمع الدولي قد حـُلت.
وبطبيعة الحال، ليس هناك عاقل لا يريد أن يخيم السلام على العالم بصفة عامة وعلى شبه الجزيرة الكورية وجوارها بصفة خاصة. غير أن العقدة أكبر من أن تجد حلا بمجرد الحديث عن لقاء قمة بين دولتين ترسخ العداء بينهما على مدى عقود من الزمن، دعك عما بينهما من خلافات أيديولوجية وتوجهات سياسة متناقضة حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
إن من شروط أي حوار لحلحلة أي مشكلة هو بناء الثقة بين الأطراف المنخرطة في ذلك الحوار وتهيئة المناخ الصحي لإستمراره والحيلولة دون انتكاسه، ناهيك عن وضع أجندة واضحة للمحادثات والمفاوضات. وكل هذه العوامل والاشتراطات غير متوفرة حتى اللحظة، كي لا نقول أنها من قبيل الأماني صعبة التحقيق.
فقادة بيونغيانغ من المُحال أن يرضخوا لما تطلبه منهم إدارة الرئيس ترامب حول تصفية ترسانتهم النووية والباليستية كشرط لرفع العقوبات عن كوريا الشمالية وتأهيلها كعضو صالح في المجتمع الدولي وإعطاء الضو الأخضر لسيئول كي تبادر لإنتشالها من واقعها المرير، لأن من شأن رضوخهم تعريتهم وسحب الورقة التي لطالما لوحوا بها لإبتزاز المجتمع الدولي. كما أنه من المحال أن يتخلوا عن روابطهم السرية مع أنظمة بعض الدول التي يصفها الأمريكيون بـ “الدول المارقة”. أما واشنطون فلن تقبل بأقل من ذلك الشرط كي لا تبدو، وهي القوة العالمية العظمى الوحيدة، وكأنها تفاوضت مع نظام ديكتاتوري أرعن دون أن تقبض ثمنا يوازي قبولها بفكرة التفاوض.
من وجهة نظري الشخصية فإن ما يتردد في وسائل الإعلام حول قبول “كيم جونغ أون” بالجلوس على طاولة واحدة مع الأمريكيين، وإيفاده شخصيات من نظامه إلى دول غربية محايدة مثل السويد وفنلندا تحت يافطة التشاور حول القمة المقترحة، التي وصفت بقمة القرن، ليسا سوى خدعة أو محاولة لشراء الوقت، ويمكن أن ينطبق عليها أيضا وصف المسرحية والمغامرة.
وتخبرنا التجارب السابقة إنه من المحال تأهيل نظام مثل النظام القائم في بيونغيانغ الذي خـُلق ليُحدث القلاقل والأزمات ويقتات عليها، وإلا فإنه أتيحت له في الماضي أكثر من فرصة ذهبية ليعيش في سلام ويهتم بأموره الداخلية ويحقق لشعبه المظلوم حياة كريمة بعيدة عن المماحكات والتوترات. من تلك الفرص ما حدث في فترة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الذي تحمس لإطلاق مبادرة دبلوماسية فريدة تجاه كوريا الشمالية في حقبة زعيمها السابق “كيم جونغ إيل” فارسل وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت إلى بيونغيانغ في شهر أكتوبر عام 2000 في سابقة كانت الأولى من نوعها منذ إنتهاء الحرب الكورية في خمسينات القرن الماضي، بل إذا ما استرجعنا شريط أحداث تلك الفترة لوجدنا أن إدارة كلينتون قدمت لبيونغيانغ ضمانات أمنية وتعهدت لها بشحنات طعام مجانية، علاوة على الموافقة على مساعدتها في بناء مفاعلات ذرية للإستخدام في الأغراض السلمية.
نعم. ذهبت أولبرايت إلى بيونغيانغ وهي متفائلة وحالمة بنجاح دبلوماسي يمهد الطريق لاخراج الدولة الستالينية من عزلتها المريرة وكف شرورها عن بلدها وعن حلفاء الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية واليابان وبقية الدول الآسيوية، لكنها عادت خالية الوفاض، بل عادت وهي متشائمة ومحبطة مما سمعته من مضيفيها ومن الطريقة المهينة التي عوملت بها.
ولنفترض هنا أن القمة المرتقبة قد عـُقدت وانتشى العالم بها وبأضوائها الإعلامية، فمن يضمن ألا يحدث مع الرئيس ترامب ما حدث مع أولبرايت، علما بأن زعيم بيونغيانغ آنذاك كان أقل حماقة من إبنه، الزعيم الحالي؟ وبكلام آخر، أليس من المحتمل على ضوء التجارب السابقة أن يتصرف كيم الصغير، المنتشي بقوته الصاروخية، مع نظيره الأمريكي المعتد بنفسه ومكانة بلاده، تصرفا لا يليق أو يقع خارج المتعارف عليه دبلوماسيا وبروتوكوليا؟ فتتكهرب الأجواء وينفض اللقاء سريعا، وتلقي كل جهة مسؤولية ما حدث على الجهة الأخرى، ليعود ترامب إلى عاصمته ويقرر معاقبة الزعيم الكوري الشمالي وبلده وشعبه معاقبة صارمة أقلها إعلان الحرب التي عـُقد اللقاء أصلا من أجل تجنبها.
لقد اقترب الخبير في شؤون شرق آسيا الزميل الفرنسي “فرانسوا غودمان” كثيرا من هذه النقطة حينما كتب في صحيفة لوفيغارو الفرنسية واصفا “قمة القرن” المحتملة بالمغامرة الكبرى ولعبة الرهانات الخطيرة. وبعبارة أخرى، يجب على إدارة الرئيس ترامب أن تتعلم الدرس مما حدث مع إدارة الرئيس كلينتون الذي كان على وشك الإجتماع بنظيره الكوري الشمالي لولا ما سمعه من الوزيرة أولبرايت عن غطرسة وخيلاء وحماقة آل كيم.
كما يجب ألا تخدع واشنطون نفسها بفكرة أن ضغوطها هي التي أثمرت عن إنعطاف مواقف بيونغيانغ 180 درجة، أو أن حمامة السلام الكورية الجنوبية ممثلة في رئيس الشطر الكوري الجنوبي “مون جاي إن” هي التي كانت وراء تحقيق الإنفراج من خلال “دبلوماسية الأولمبياد”. إن الموضوع برمته لا يزال قابلا لكل الإحتمالات بما في ذلك احتمال حدوث مفاجآت تعصف بفكرة القمة قبل إنعقادها، أو وقوع تصرفات طائشة أثناء أنعقادها فتزداد المنطقة والعالم توترا.
Elmadani@batelco.com.bh
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين