تحل الذكرة الثالثة عشرة ليوم “14 آذار” الذي حسبتُ وحسب كثيرون انه مثّل منعطفاً نحو سيادة لبنان، ليتبين ان الحسبان ليس في مكانه. ففي المكان، علي حسن خليل يتهم علناً سيزار ابي خليل والتيار العوني بالسرقة، ويتباهى بأنه يقطع الطريق على هذه السرقة، الا ان خليل لا ينقد ترشح ابي خليل و”معلمه” جبران باسيل الى الانتخابات رغم التهم التي اذا ثبتت تؤدي الى تلطيخ سجلهما العدلي، وتحول تالياً دون حقهما في الترشح.
وفي المكان، جان عزيز يتهم الياس أبو صعب بالسرقة، فينقطع رزقه كمستشار ومدير أخبار لدى التيار العوني. ويطلع “out” بعدما كانت أحلامه تحوم حول مقعد نيابي في جزين. ولا أحد يسأل أبو صعب ويسائله عن تهمة هي أيضاً يجب التحقيق فيها للتأكد من حق ابي صعب في الترشح.
وفي المكان، مَن يفترض انه كان عرّاب النظام الأمني المخابراتي أيام الاحتلال السوري يسعى الى شرعنة وجوده في البرلمان عبر محور الممانعة وبكثير من الاستعلاء والخيلاء.
وفي المكان، مَن يفترض انه الجاسوس على وليّ نعمته، وأهم ميزاته انه استولى على ارض في المشاع لتشييد قصره وتسلح بصوت زوجته الشتّام الذي يحاضر في العفة.
وفي المكان، مرشح يتهم ابنه المرشح ضده بجرائم مالية يسعى الى الهرب منها عبر الحصانة النيابية.
… وأينك يا يوم “14 آذار”؟ شؤم عليك ذكراك الحاملة رقم 13.
أين الجماهير التي هتفت: حرية سيادة استقلال؟ ما الذي حل بالمكان؟ وكيف صار “14 آذار” خارج الحسبان؟
السؤال جائز وشرعي، فلا سيادة ولا حرية ولا استقلال عندما تتكاثر الجرائم ولا أحد يحاسب ويحقق في الاتهامات الطالعة من بيت السلطة الداخلي، التي لا تفسد للتوافق على مصادرة البلد وداً.
على العكس، هؤلاء الذين يتراشقون بالاتهامات يعتبرون انفسهم اسياد الندوة البرلمانية بمجرد انهم ترشحوا للانتخابات. وعلى الشعب واجب انتخابهم، والا لن يجد ابوابهم مفتوحة اذا قصدهم لإدخال ابنه الى المدرسة او الجامعة او السلك الوظيفي، او اذا احتاج سريراً في مستشفى.
كثّر الله خيرهم انهم منّوا علينا بترشّحهم. وقس على ذلك يا أيها الناخب اللبناني، الذي لا تخيره السلطة المتحكمة بالبلاد ومقتدراتها، بل تطالبه بما يشبه الامر الواقع بإعادة انتخاب رموزها وتمديد فترة التحكم بلا تجديد وبإصرار على استغبائه او اعتباره شريكاً في خراب البلد، اذا أعاد وضع الأسماء التي حددتها في صناديق الاقتراع.
هم الذين صنعت غالبيتهم حيّز وجودها من الحرب الاهلية المدمرة التي أطاحت ارزاقنا وبيوتنا وأماننا وأشغالنا.
هم الذين خطفت أحزابهم أولادنا وآباءنا وشبابنا على الحواجز وقتلوهم وأخفوهم، ثم بعد اتفاق الطائف نهبوا الدولة. هم الذين خطفوا رهائن وخططوا ونفذوا اغتيالات، وفرضوا نظاماً امنياً مخابراتياً على المواطنين. ولاحقوا وهدّدوا وسجنوا مَن كان لا يوافقهم الرأي.
كأن يوم “14 آذار” لم يقع في التاريخ قبل 13 عاماً. أو كأن يداً واحدة سرقت ختماً يحمل عبارة “لا حكم عليه” ودمغت به زوراً السجل العدلي لمَن حبل بهم الفساد واستغلال السلطة وصولاً الى أكبر الجرائم الموصوفة، سواء عبر سيرتهم ابان الحرب الاهلية او عبر مسيرتهم المتخمة بالفساد بعد الطائف، وبعد عودة المبعدين في زمن الاحتلال السوري ودخولهم نعيم السلطة ومسحهم كل العداء للأطراف الذين ابعدوهم.
يبدو ان لا مكان للمنطق، والسبب لا يقتصر على أهل السلطة الذين ينقلبون على مبادئهم وفق ما تتطلبه مصالحهم، ولا يقتصر على انتقال لبنان من وصاية الى وصاية وخضوع غالبية الطبقة السياسية لمنطق غلبة السلاح والمحاور الإقليمية. ذلك ان سبب الوصايات والاستقواءات والسلاح خارج الدولة مردّه الى ما يضعه اللبنانيون في صناديق الاقتراع منذ 28 عاماً، حين توقفت الحرب الاهلية، لتحكمنا تداعياتها التي انتجت وطناً فاشلاً بكل المقاييس، واتحفتنا بقانون خبيث، طائفي انتهازي ومتخلف.
الا ان اهم ما اتحفتنا به، يبقى شرعنة الفساد وغياب المساءلة، ما يعيدنا الى السجل العدلي. فأحد المرشحين من الصف الثاني، اتُّهم وصدر في حقه حكم وسُجن لأنه سرق مالاً عاماً.
مرشح آخر من الصف الأول، تبين بعد حرب تموز ان لديه مصنعاً غير مسجل في الدوائر الرسمية المختصة ولا يسدد ضرائب للدولة، ومع هذا حصل على تعويضه مضاعفاً بهمة المافيا التي كانت تعمل تحت الطاولة لنهب ما أمكن ومن دون أي ملاحقة قانونية.
الاهم ان احد المرشحين رمى اقلاماً جفّ حبرها على الطاولة وقال انه دوّن ما يجب تدوينه وكأنه يهدد من تواطأ معه بفضحه إن هو حاول تصفيته، او ابتزازه اذا لم يصل الى حيث يريد.
وليس حجة ان ما اطلق عليه اسم “المجتمع المدني” بكل اطيافه وتنافسه، مشرذم. واذا كانت النية لدى الناخبين صادقة في إصلاح كل ما يشكون منه، فليحصروا أصواتهم بمرشحين من خارج محادل الاغتيالات والخراب والفساد، ليتنافسوا في ما بينهم، لعل وعسى نستطيع الحصول على نواب، سجلاتهم العدلية الفعلية نظيفة بالحد الادنى.
اما اذا كان الناخبون مصرين على البقاء في حظائرهم المذهبية الضيقة وتعصبهم لأحزاب لا مبادئ لديها ولا إنجازات الا اثارة الغرائز ودعم اللصوص والمجرمين من أزلامها، فحينها لا يحق لهم الاعتراض على الكهرباء والماء والنفايات وارتفاع الأسعار واستحالة تأمين أقساط المدارس وفاتورة الهاتف او المستشفى. وهي المشكلات المتفاقمة منذ 28 عاماً، وبنسب أخطر مما كانت عليه خلال الحرب الاهلية.
الحل البسيط لكل المعترضين على البلد الفاشل، يأتي من صناديق الاقتراع. هناك مكمن المحاسبة لمَن يريد ان يحاسب ويغيّر.
اذا لم تصحح أقلام الاقتراع الحياة السياسية اللبنانية، واذا قررت غالبية اللبنانيين التجديد لطبقتها المسؤولة عن كل الموبقات والسرقات وغياب القانون واهتراء الامن والقضاء، ساعتها الى جهنم وبئس المصير لأن الشعب رضي بأن يكون شريكاً في قمة البهدلة.
sanaa.aljack@gmail.com
- المصدر: “النهار”