ما كان للرئيس حسن روحاني ان يعطي الاحتجاجات التي اندلعت أبعادا سياسية واجتماعية لولا قناعته بأن التعامل الأمني البحت مع حركة الاعتراضات قد يصيب النظام نفسه بتصدعات على المدى الطويل، وما كان ليطلق مواقف تخالف مواقف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، لولا معرفته الدقيقة بأن المتظاهرين ليسوا خونة او أداة في أيادي الاستخبارات الخارجية كما دأب القادة الإيرانيون على تشخيص حركة خروجهم الى الشارع.
روحاني، الذي اعتبر ان من حق المحتجين ان ينتقدوا من يشاؤون في ايران انما حاول التخفيف من بشاعة منظر رجال الأمن وهم يتعاملون بقساوة لا نظير لها مع من يهاجم “المرشد” بالاسم ويعتبرون ان لا سلطة له عليهم. فالهراوة التي تنهمر على رؤوسهم هنا منطلقاتها تتجاوز الأمني والسياسي الى “القُدسي” أي الى شرعية دينية كون الخامنئي حسب معتقداتهم هو نائب المهدي الإمام المنتظر، وفي الغطاء الشرعي الديني تنتهي المحظورات لمصلحة الضرورات، والضرورات هنا تتشابه مع فرض الحد كون الطاعة للمرشد إيمان وعصيانه كفر.
وإذ يجد الرئيس روحاني نفسه في موقف لا يحسد عليه كونه ابن النظام البار من جهة و”الرمز” الواعد بالتغيير من جهة أخرى، الا انه اضطر لاتخاذ مواقف عاكست كل ما قاله القادة الحقيقيون للنظام الإيراني واتباعهم النجباء من زعماء ميليشيات عراقية ولبنانية. قالوا ان المتظاهرين عملاء وهو قال انهم وطنيون. قالوا انهم احتجوا على تبخر مشاريع اسكانية ومدخرات بنكية وقال ان الموضوع اجتماعي شامل ولا يتعلق بانتكاسة هنا او حادثة هناك. قالوا انهم خرجوا الى الشوارع بعد ارتفاع الأسعار وقال ان المشكلة سياسية بامتياز. قالوا ان دولا اجنبية وعربية حركت الناس ولا بد من قمعهم وقال ان الحريات العامة يجب ان تصان وتتسع وان القمع مرفوض.
هذه المواقف تشي إما بان الرجل يتقن لعبة تبادل الأدوار حفاظا على استمرار النظام، وإما انه يدرك ان الشرخ بين النظام وناسه اكبر مما هو متوقع حتى ولو تأجل الانفجار… والقريبون منه يقولون انه يتقن ويدرك، أي يسير في الخطين معا.
في إيران شعب على درجة كبيرة من الحيوية والديناميكية والقدرة على التعبير والتغيير. شعب يرى انه ينتمي الى واحدة من اغنى الدول بالثروات الطبيعية والمقدرات ومع ذلك يعيش الكثير منه تحت خط الفقر. شعب يرى ان مداخيل دولته تذهب الى ميليشيات هنا وهناك ومشاريع عابرة للحدود بهدف حماية النظام وتوسيع نفوذه إقليميا، وشعب يرى ان معدلات الفساد في الداخل فاقت مثيلاتها أيام حكم الشاه السابق مع فارق ان أحدا لا يجرؤ على الكلام والا فمصيره الاختفاء.
هنا، يختلف الامر عن الانتفاضات السابقة المتعلقة بتزوير انتخابات او قمع اصلاحيين. المتظاهرون اعلنوا “الكفر” الوطني بالإصلاحيين والمحافظين على السواء. هم يرفضون سقف النظام برمته ولعبة تداول السلطة بين اقطاب يدينون بالولاء الى مرشد واحد، ولذلك لم تكن شعاراتهم الكارهة للسلطة كلها اقل حضورا من شعاراتهم الاقتصادية، وهو ما سمعه روحاني جيدا وقرأه أيضا بعمق.
لكن سقف التوقعات في ما يتعلق بالموضوع الإيراني يبقى محكوما بجملة وقائع أهمها تفتيت النظام للدولة بمفهومها الدستوري واحلاله منظومة قائمة على تعدد الأجهزة الأمنية والسياسية المربوطة كلها برابط ديني يعطي “حماته” حق القوة المطلقة طالما ان الفوز بالجنة مقدم على الفوز في الأرض. إضافة طبعا الى سياسة دولية فاشلة في مقارباتها وتدخلاتها ووضع إقليمي مشتت، ومع ذلك فمن يتمعن بوجوه الخارجين الى الشارع وشعاراتهم يدرك انهم منتفضون حقيقيون ضد واقعهم ونظامهم ولو كانت انتفاضتهم في البداية نوعا من “الانتحار” حسب توصيف نائب إيراني طالب المتظاهرين بالتركيز على الغلاء وتجنب الحديث عن خامنئي.
واذا كان “الانتحار” استنتاجا سريعا لمؤيدي النظام في توصيفهم للاحتجاجات، فإن استمرارها ولو بعد استراحات رسالة الى النظام نفسه بان يتوقف عن نحر شعبه ونحر الآخرين عبر حلم الإمبراطورية الإقليمية، وان يتمعن جيدا في تجارب أنظمة كان قادتها يعتقدون انها عصية حتى على الاهتزاز فاذا بهم يمضون تحت انقاضها… وروحاني بالطبع يقرأ المشهد في “مشهد” وأخواتها بعين قلقة مهما انتشى حماة التجربة بفائض قوتهم راهنا.
alirooz@hotmail.com