صعود الصين يبدو مدويّا على سلم المشهد الجيوسياسي العالمي، لكنه يمكن أن تشوبه توترات وعوامل تصعيد مهددة لأمن وسلام العالم.
تتغير مفاهيم السيطرة والنفوذ في العالم تبعاً للثورة الرقمية والتطورات العلمية والتكنولوجية، لكن تجميع عناصر القوة بالمعنى التقليدي وأبرزها السيطرة على البحار والمحيطات يبقى من الثوابت، وفِي هذا السياق أتت الذكرى التسعين لجيش التحرير الشعبي (الجيش الأحمر) لكي تبيّن الصين من خلال مسيرات ضخمة لعرض قواها العسكرية في منطقة منغوليا الداخلية النائية، ومن خلال افتتاح أول قاعدة عسكرية لها في الخارج على أبواب البحر الأحمر في جيبوتي، أنها تواصل صعودها العالمي الاقتصادي والعسكري. بيد أن إشارات التوتر مع الهند والولايات المتحدة الأميركية تبرهن على تصاعد في التجاذبات الاستراتيجية والتجارية، وعلى احتمال تمدد رقعة صراعات النفوذ من شبه الجزيرة الكورية إلى أجزاء برية وبحرية من طريق الحرير الجديد.
كانت الصين دولة غير متقدمة في نهاية السبعينات من القرن العشرين، لكن بفضل الانفتاح والانتقال إلى اقتصاد السوق حقق الرئيس دينغ هسياو بينغ القفزة النوعية التي أطلقت نظرية “الصعود السلمي” المعتمد على عناصر القوة الناعمة وسياسات التعاون السلمي. ومما لا شك فيه أن الحزب الشيوعي الصيني (المستند إلى العمق الحضاري مع كونفوشيوس وإلى ما يشبه هيكلية الإمبراطورية تاريخيا) أثبت قدرته على البقاء في سدة السلطة، بالرغم من فتح السوق الصيني والنجاح الاقتصادي. ولَم يكن النجاح حليف من تنبؤوا عقب أحداث ميدان تيان آن مين بأن النظام الصيني سيسقط إذا لم يتبنَّ حركة إصلاح سياسي واسعة النطاق، لكن النظام تجاوز هذا “المطب” وأهمل أي إصلاح سياسي مركزا على حركة إصلاح اقتصادي، أدت إلى نمو الاقتصاد الصيني بشكل مضاعف دون أن يفقد سيطرته على السلطة.
هكذا فشل الرهان على أن سقوط جدار برلين سيقود أيضا إلى سقوط نظام الحزب الوحيد في الصين على شاكلة الانهيار السوفييتي. ولم تصح نظرية التطور الرأسمالي كمفتاح للتحول السياسي لأن تعداد الطبقة الوسطى محدود جدا ولأن لعبة الأسواق محكومة بسيطرة الدولة ومسؤولي الحزب، وذهبت مع أدراج الرياح مقولة جورج بوش الأب “علينا أن نتاجر بحرية مع الصين فالوقت يقف بجانبنا”، ولم تتحقق بعدها نبوءة خلفه بيل كلينتون في العام 1997 حينما أعتبر أن “الصين تقف على الجانب الخطأ في التاريخ، وإن نظام الحزب الوحيد سينهار مثلما انهار حائط برلين”.
على العكس من ذلك أخذ النموذج الصيني يبرز كمنافس للنموذج الأميركي في حقبة العولمة المعاصرة، خاصة أن ريادة واشنطن القائمة على الاقتصاد الحر والديمقراطية أخذت تتعثر لأن التاريخ لم ينته مع الانتصار في الحرب الباردة، ولأن نهج الربط بين القوة العسكرية، ونشر الديمقراطية وتغيير الأنظمة فشل في أكثر من مكان. والأدهى أنه اليوم مع تصدع العولمة أخذ النموذج الصيني يكسب النقاط على حساب الديمقراطية الليبرالية وأخذ يكتسب لمعانا ونموذجا يُحتذى في بعض الأحيان في نظر العديد من الطغاة والأوتوقراط الذين يرغبون بالحفاظ على الوضع القائم وعدم الاضطرار للاختيار بين الحكم السلطوي والنجاح الاقتصادي من دون المرور عبر قناة الانفتاح. لكن ما تتميز به الصين يتمثل في “شراء النخب” وعدم إبطاء النمو الاقتصادي بالرغم من مفاعيل السلطوية والرقابة على المعلومات والإنترنت.
تمكّنت الصين عبر “القوة الناعمة” من الانتقال من القوة الصامتة إلى القوة المؤثرة، وكان المنعطف الألعاب الأولمبية في بكين عام 2008. بفضل حجمها الهائل وجاذبية أسواقها الضخمة، أخذت الصين تجمع بين “القوة الناعمة” و“القوة الصارمة” (الصلبة) وتطور آلتها العسكرية، حيث أن الإنفاق العسكري في 2017 سيرتفع بحوالي سبعة بالمئة بالقياس لميزانية 2016 الدفاعية (حوالي 150 مليار دولار) غير أن النفقات الفعلية للجيش الصيني يمكن أن تكون أعلى من ذلك بكثير. وكل هذا الاستثمار حدا بالرئيس الصيني أخيرا للإعراب عن ثقة زائدة بالنفس وعن الاعتداد بقدرات جيشه الكافية للحفاظ على السيادة الوطنية والأمن القومي.
انطلاقا من هكذا خيارات، تم افتتاح القاعدة البحرية الأولى للصين في الخارج في جيبوتي التي تتمتع بموقع جيواستراتيجي حساس، مما يعكس ويعزز نفوذ الصين المتنامي في أفريقيا وعلى طريق الحرير ويوسع تحرك قواتها العسكرية. لكن ذلك يعتبر بداية خجولة بالمقارنة مع وجود أكثر من ستة آلاف قاعدة عسكرية أميركية في الخارج، وعشر قواعد فرنسية ووجود روسي من القرم إلى الساحل السوري.
بالإضافة إلى البحر الأحمر والقرن الأفريقي، يسعى التنين الصيني إلى السيطرة على مرافق ومراكز استراتيجية بحرية، وتبني الصين جزرا اصطناعية في بحر الصين الجنوبي تستطيع تحويلها بسهولة إلى قواعد عسكرية مليئة بترسانة هائلة من المدمرات والصواريخ والطائرات. لكن الصين لا تهتم فقط بالبحار بل تبقى من القوى البرية العملاقة والدليل افتتاح الطريق البري بين الصين وباكستان، وعودة النزاع الحدودي مع الهند على ضوء مطالبة بكين للهند بسحب قواتها من هضبة دوكلام وهي أرض متنازع عليها بين البلدين.
من هنا تثير القاعدة الصينية في جيبوتي قلق الهند التي تخشى من تحركات الصين في المحيط الهندي، في حين تشهد العلاقات توتراً بين البلدين بسبب الخلاف الحدودي في جبال الهيملايا.
لا يتمركز الجيش الأحمر عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر فحسب، بل يعمل على تطوير قواه البحرية مع تعزيز السيطرة على بحر الصين الجنوبي (البحر المقابل للمتوسط في شرق آسيا)، وهو الأمر الذي يزيد من تهديد الهيمنة الأميركية والوجود الياباني في المحيط الهادي. وستكون له تداعيات على موازين القوى في شرق آسيا. ولهذه الاستراتيجية مظاهر أخرى منها التطور المتسارع لعلاقات بكين بكل من دول آسيا الوسطى وباكستان، والصلات مع إيران والسعودية ودول الخليج ومصر وتركيا في منطقة الشرق الأوسط، والتركيز على شرق أوروبا واليونان، بالتزامن مع الانحياز إلى جانب روسيا في المسألة السورية. يبدو صعود الصين مدويّا على سلم المشهد الجيوسياسي العالمي، لكنه يمكن أن تشوبه توترات وعوامل تصعيد مهددة لأمن وسلام العالم.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
khattarwahid@yahoo.fr
العرب