بدل أن تشتغل الزعامات الطائفية اللبنانية، على تشكيلاتها وتقليعاتها الدينية والدنيوية كافّة، في حلّ مشكلاتها المزمنة، تظهر علينا هذه الزعامات بين فينة وأخرى عبر شتّى وسائل الإعلام محاولة تصدير جميع عيوبها السياسية والاجتماعية إلى محيطها. والعيوب كما هو معروف هي عابرة للحدود الجغرافية والسياسية، فما بالكم بهذا النوع القاتل من العيوب القبليّة والطائفيّة؟
ولأنّ الأقربين، كما يقال، أولى بالمعروف، نجد لزاماً علينا أن نضع النقاط على الحروف المبهمات. إنّ الكلام هذه المرّة سيُوجّه إلى «البيك»، زعيم المختارة والزعيم اللبناني وليد جنبلاط. والمناسبة هي ما أُشيع ونُشر من كلام منسوب إليه في شأن تبجيل مواطنين من إسرائيل نفّذوا العمليّة في «الحرم القدسي»، وإسباغه عليهم نعت «المجاهدين». لقد تصادف أن كان ضحايا هذه العمليّة حارسين شرطيّين على أبواب «الحرم القدسي» ينتميان إلى الطائفة العربية الدرزية. بالتأكيد، لم تكن العملية موجّهة ضدّ أفراد ينتمون إلى الدروز، غير أنّ جنسية المنفذين الإسرائيلية والموقع المقدّس الذي نُفّذت فيه أثارت حساسيّات طائفيّة، سارع الكثيرون إلى إخمادها قبل أن تتطوّر إلى أمور لا تُحمد عقباها.
إنّ الأحداث التي تعصف بهذا المشرق في الأعوام الأخيرة تصل أصداؤها إلى هذه الربوع التي تعيش فيها الأقلية العربية بظروفها الخاصّة في إسرائيل. وعلى رغم كلّ النّزيف العربي الطائفي المقيت خلف الحدود، حافظت هذه الأقليّة بحدسها الطبيعي وببصيرة العقلاء فيها، من مختلف الطوائف، على لحمتها الاجتماعيّة. وعلى رغم كلّ الصعوبات لم تدع هذه الأقليّة كلّ هذا الشرار الطائفي أن يُشعل حريقاً في ربوعها وبين صفوفها.
من هذا المنطلق ولأنّنا هنا في هذه الربوع، وعلى غرار أهل مكّة، أدرى بشعابنا هنا، بل أبعد من ذلك، لأنّنا هنا أدرى ليس فقط بشعابنا، بل بشعوبنا أيضاً، فإنّ الكلام موجّه إلى جميع زعماء الطوائف والقبائل عبر الحدود أن يتركوا هذه الأقليّة وشأنها.
إنّ الزعامات الطائفية الوراثيّة والتوريثيّة في هذا المشرق، وجنبلاط أحد أمثلتها البارزة، لا يمكن بأيّ حال أن تشكّل مثالاً يُقتدى لدى هذه الأقليّة التي بقيت وصمدت في وطنها على رغم كلّ الصعاب. إنّ الأجيال العربية الناشئة لدينا تبحث عن مستقبل آخر يقع على طرف نقيض لكلّ ما تراه من حولها. هذه الأجيال تبحث عن سُبُل لتخطّي كلّ هذه الأوبئة الاجتماعية التي تشهدها في هذا المشرق العربي النازف.
لهذا السبب، ولأسباب كثيرة أخرى لا يتّسع المجال للتطرّق إليها الآن، ليس من قبيل الصدف أنّ هذه الأقليّة العربية في إسرائيل وبجميع طوائفها، وكما يتّضح من كلّ الاستطلاعات التي أُجريت في الأعوام الأخيرة، لا ترغب بأيّ حال من الأحوال أن تكون جزءاً من أيّ كيان سياسيّ عربيّ أو فلسطيني على الإطلاق. وهذا ما تعبّر عنه أيضاً القيادات السياسية، الثقافية والاجتماعية الفاعلة بين صفوف هذه الأقليّة.
هذه هي حقيقة هذه الأقلية الباقية في وطنها الذي صار جزءاً من الكيان السياسي الإسرائيلي. فنضال هذه الأقلية نضال سياسي ضمن الكيان السياسي الإسرائيلي. وفي هذا النضال لا مكان بأيّ حال من الأحوال وفي أيّ من الظروف، لا للدواعش ولا لأشباه الدواعش بيننا. لهذا أيضاً، يجب التحلّي بالشجاعة الأخلاقية ونبذ وإدانة كلّ نبرة طائفيّة، مهما صغرت ومهما كان مصدرها. إذ إنّ هذا الشرار الطائفيّ سرعان ما ينتشر ويشعل الحرائق التي لا تُبقي ولا تذر.
وخلاصة القول، إنّ المخترة تضحي أحياناً مخطرة. لهذا فإنّ الزّعامات الطائفية والدينية في هذا المشرق، على اختلاف تشكيلاتها، مدعوّة إلى حلّ مشاكلها وإشفاء عيوبها المزمنة في مواقع وجودها بدل العمل على نقلها إلى ربوعنا. لسنا بحاجة إلى اقتناء هذا النوع من العيوب، فلدينا ما يكفي منها ونحن نصارعها بأنفسنا. وكما ذكرت آنفاً، نحن هنا أدرى بشعابنا منكم، ونحن هنا أدرى منكم بشعوبنا وشعوبكم أيضاً.