تَمَسُّك موسكو بالحفاظ على الوضع القائم في دمشق ينصب لبعض الدول الأوروبية، أفخاخا لعدم التركيز على أولوية الحل السياسي، وترك الساحة السورية مسرحا لهذه اللعبة الدولية- الإقليمية المفتوحة.
أتت التطورات الأخيرة في سوريا، نهاية الأسبوع الماضي، وتصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن عقب إسقاط طائرة للنظام السوري بريف الرقة، لتمثل اختبارا لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولتداعيات “الحل الروسي”. وتأتي التسريبات هذا الأسبوع عن اتفاق روسيا وأميركا والأردن على مذكرة تفاهم تضمنت مبادئ لإقامة “منطقة آمنة” في درعا وريفها جنوب سوريا، لتؤكد عدم توجه موسكو وواشنطن نحو المواجهة، علما وأن المنطقة المقترحة التي تمتد بعمق 30 كيلومترا من حدود الأردن، تضمن ابتعاد الميليشيات الموالية لإيران عن الحدود. وهذا السباق بين التوتر والانزلاق إلى المواجهة أو تسويات ضبط الأمور يضع الاستراتيجية الروسية وتقاطعاتها على المحك قبل القمة المنتظرة بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب على هامش قمة العشرين في هامبورغ (ألمانيا 7- 8 يوليو).
تُفسر فاعلية استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الإسراع بأخذ زمام المبادرة منذ بدايات الأزمة في 2011، ولإدراكه حينها أن هذا الملف ليس من أولويات إدارة باراك أوباما. ومنذ التدخل الروسي الواسع في سبتمبر 2015، اعتمدت الاستراتيجية الروسية على تحويل ميزان القوى لصالح دمشق وإلى ترجمة تلك الحقائق الجديدة إلى نفوذ على طاولة المفاوضات. برز ذلك عبر مسار أستانة وتنظيم تقاطعات ناجحة مع إيران وتركيا وإسرائيل على درجات متفاوتة.
وإزاء عدم بلورة استراتيجية واضحة ومتكاملة للولايات المتحدة الأميركية يستمر الاندفاع الروسي لتطبيع الوضع في سوريا. وسيكون الاختبار المهم في معارك ما بعد الرقة وفي دير الزور والبادية شرق وجنوب سوريا. وسيتضح في الشهور القادمة مآل الدور الروسي في استكمال ضبط الوضع السوري أو خروجه عن السيطرة في بعض المناطق.
بين مارس 2011 وسبتمبر 2013، ركزت موسكو على إنقاذ ودعم نظام بشار الأسد، كي تكون سوريا بمثابة نقطة ارتكاز حيوية للعودة إلى الساحة الدولية، والوصول إلى المياه الدافئة وفرض نفسها لاعبا دوليا أساسيا في الشرق الأوسط. وإثر حدث استخدام السلاح الكيميائي في أغسطس 2013، وسقوط خطوط باراك أوباما الحمراء تسلم الرئيس الروسي عمليا مفتاح النزاعات والحل في سوريا، حيث عمل على إحداث تغيير جذري في مرجعية جنيف (2012)، واستخدام ورقة الإرهاب كمجال للتمدد العسكري ميدانيا. وفي هذه الأثناء، بين ربيع 2012 وصيف 2015، أتاح تدخل إيران وأذرعها خصوصا حزب الله تمكين نظام دمشق من الصمود وإسناد أهداف السياسة الروسية.
بيد أن انهيار خطوط دفاع النظام وحلفائه في شمال ووسط سوريا في ربيع وصيف 2015 برّر التدخل الروسي الكثيف منذ سبتمبر 2015 والذي مهّد في أواخر 2016 لمنعطف إسقاط حلب وبدء إرساء أسس حل يلائم التوجهات الروسية. على مر السنوات الأخيرة تمكنت روسيا من ترسيخ وجودها في المنطقة وتكريس دورها كقوّة دولية مستفيدة من الانكفاء الأميركي والغياب الأوروبي. لكن أبرز ما أنجزته أنها تمكنت من تمديد عمر الحكم السوري وممارسة ما يشبه الانتداب المتناغم مع النفوذ الإيراني. هكذا تمكنت موسكو من الإمساك بورقة النظام وتوظيفها لخدمة السياسة الروسية إقليميا ودوليا.
فيما يتعلّق بالتجاذب أو الصراع مع الولايات المتحدة والغرب، تمكنت روسيا من الدخول في مفاوضات ثنائية مباشرة مع واشنطن وانتزاع اعتراف بدورها السوري. لكن تفاقم أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2014 (ربطه البعض بالضعف الأميركي في سوريا واستناد بوتين إلى ذلك في مقارباته) أديا إلى عودة مناخ من الحرب الباردة ووضعا تفاهمات كيري – لافروف في مهب الريح.
في أواخر مرحلة أوباما ازدادت ملفات الخلاف العميقة بين واشنطن وموسكو، ومنها مسائل الدرع الصاروخية ونصب صواريخ قرب حدود روسيا، وتدخلات واشنطن لعرقلة بيع النفط والغاز الروسي إلى أوروبا، والنفوذ الروسي المستجدى في الشرق الأوسط والتدخل الروسي في الجوار المباشر. ويفسّر هذا التوصيف للوضع بين الجبارين القديمين تسارع جهد بوتين للحسم في سوريا قبل وصول الإدارة الأميركية الحالية كي يكون استكمال الحرب ضد الإرهاب وتأهيل النظام السوري وإعادة إعمار سوريا على رأس نقاط “المقايضة” مع سيد البيت الأبيض.
لكن الرهان الروسي على العمل مع ترامب أخذ يتعثر مع الكشف عن الشك بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية والهزة المستمرة فصولا داخل دوائر الحكم الأميركي. وأتت “رسالة” ضربة الشعيرات بعد مجزرة خان شيخون، وما حصل حول معبر التنف لتدلل على تعقيدات لإيجاد تفاهمات، خصوصا أن مسلسل العقوبات الأميركية ضد روسيا والمأزق الأوكراني ونقاط التوتر الأخرى لا تشكل بيئة محبذة لتفاهمات حاسمة حول سوريا. يتلازم ذلك مع قلق الدوائر السياسية الأميركية من تسجيل روسيا لنقاط إضافية من مصر إلى ليبيا والخليج وذلك على حساب دور واشنطن المهيمن سابقا.
بانتظار وضع الملفات على طاولة التفاوض مع ترامب عاجلا أم آجلا، يتمسك بوتين بتقاطعاته في تنسيق يضمن مصالح إسرائيل الأمنية، ويشرك تركيا بشكل مقنّن عبر حجز منطقة خفض التصعيد في إدلب والشمال السوري، فيما تبقى إيران الشريك الأهم لموسكو في اختراقها الإقليمي.
أما بخصوص موقع الرئيس السوري بشار الأسد في معادلة موسكو، فيقول مصدر روسي “حتى عام 2007 كان بشار الأسد أقرب للغرب وحليفا لإيران، ولم يتقرب من روسيا إلا بعد قيام واشنطن بإلزامه بالانسحاب من لبنان”، ويضيف هذا المصدر “مصير الرئيس بشار الأسد يقرره يوما الشعب السوري والأهم بالنسبة إلى موسكو عدم سقوط الدولة السورية”.
بالطبع لا يقدم هذا الكلام جديدا وفق منطق الغموض غير البناء، لكن تمسك موسكو بالحفاظ على الوضع القائم في دمشق ينصب لبعض الدول الأوروبية، ومنها فرنسا، أفخاخا لعدم التركيز على أولوية الحل السياسي، وترك الساحة السورية مسرحا لهذه اللعبة الدولية- الإقليمية المفتوحة من دون المس بالنظام حتى إشعار آخر.
فيما يتعدى المتغيرات والمناورات والتجاذبات في الأشهر القادمة، سيتضح ما إذا كان استثمار موسكو في الإمساك بالورقة السورية سيسفر عنه ترتيب لأوراقها مع واشنطن أم انزلاق تدريجي نحو عدم القدرة على ترتيب تفاصيل البلقنة وإطارها الإقليمي على ضوء صعوبات إعادة تركيب المشرق من دون استبعاد على مدى طويل لانغماس روسي في المستنقع السوري على منوال التورط الأميركي في العراق وأفغانستان.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب