لم يكن انفصالاً عن الواقع ما عرَضَه بشار الأسد من تفسيرٍ لكيماوي خان شيخون. كان هو بِشَحْمِه ولحمه و”تشبيحه” وبعثيّته وإيرانيّته وممانَعته. ومَن كان ينتظر منه كلاماً مختلفاً، فهو المنفصل عن الواقع.
تماماً مثلماً حصل قبل أربعة أعوام. قال بشار إن الارهابيين هم مَن ضربوا الكيماوي في الغوطة، ومع ذلك قَبِلَ بمَخْرج بوتين مدخلاً لتسليم روسيا نصف الشمال السوري، واخترع العالم فكرة تدمير الترسانة الكيماوية وما عَنَتْه من بقاءٍ للنظام وفتْحِ المسرح السوري من أوسع أبوابه للاعبين الإقليميين.
هذا هو النظام السوري مُذ وَلَدَتْه أمّه … الانقلابات والمؤامرات. بقدْر ما يحتقر شعبه وينتقم منه في كلّ مناسبة، بقدر ما يتودّد للغرب ويخشاه ويحاربه بالواسطة إن استطاع، ثم يَظهر أمامه بمظهر الدولة الرشيدة المنفتحة على التسويات.
في حديثِ بشار الأخير، لا وجود لشعبٍ سوري ينشد التغيير، ولا وجود أساساً لضحايا، فالصور مفبْرَكة والأطفال ممثِّلون. كل ما هو موجود في المشهد السوري نظامٌ يحارب الاٍرهاب ومستعدٌّ للشراكة مع الأميركيين وغيرهم إن ساندوه في معركته، مقابل إرهابيين يحتلّون المدن ويجب ان يُبادوا بمختلف الوسائل. كم كان رؤوفاً، حكيماً، هادئاً وهو يتحدّث عن صواريخ توماهوك ويعطي التنظيرات عن الدولة الأميركية العميقة ومؤسساتها العسكرية والمالية التي جعلتْ ترامب مجرد أداةٍ ينفّذ الأوامر فقط … وكم كان “بشاراً” و”حافِظاً” و”ماهِراً” عند الحديث عن الثوار ناعتاً إياهم بالجملة “إرهابيين” ومهدِّداً إدلب وغيرها بالويل والثبور.
كان الرجل، حرفياً، متّصلاً بواقع تاريخه وتاريخ أسرته ونظامه وليس منفصلاً عنه قيد أنملة. بل لعب دوراً في تطوير هذا الاتصال بإضفاءِ بعض المؤثّرات التي يرى أنها تُكْسِبُه استجاباتٍ لدى المتلقّين الغربيين الذين تَوَجّه اليهم أساساً في مقابلته، مثل فرية اللمسة الانسانية التي تحرمه من النوم حزناً على الدم المسفوك يومياً، والقفْشات السمجة المصحوبة بضحكاتٍ أسمج لإظهارِ الارتياح وتسخيف الضربة الأميركية.
ومن علاماتِ هذا الاتصال، متابعة أسلوب “هاد الحاضر” في التوضيح والتبرير مهما اعتراه من تناقضات. فالأسد وكل أطراف الممانعة عموماً هم أكثر مَن أصابتْهم ثورة الاتصالات بضررٍ، وربما اعتبروها المؤامرة الغربية الأكبر في العقود الماضية. حتى أن أهالي جوبر عندما التقوا بشار في بداية الثورة نقلوا عنه انه لا يتضايق ممّن يتظاهر بل ممّن يصوّر، ومع ذلك أكمل نهجه المعروف مضطراً للتعايش مع الصور معتبراً انها فبْركات.
في مقابلته، قال إن أي أوامر لم تُعط بتوجيه ضربةٍ في اليوم الذي شهد المجزرة، وبعدها بدقائق قال إن الضربة حصلت بين 11:30 و 12 ظهراً. واعتبر ان مجزرة خان شيخون كلّها مفبركة مئة في المئة ولَم تحصل وان الضحايا الأطفال غير موجودين أساساً، وبعدها لم ينفِ احتمال استهداف مقرّ للارهابيين فيه مواد كيماوية. قال إن لا كيماوي في ترسانته، ثم أوضح انه حتى لو كان لديه، فلن يستخدمه …. الى آخر ما هنالك من تناقضاتٍ تدلّ على انه إبنٌ بار لمنظومةٍ تمتلك وحدها الحقيقة وحقّ التبرير والتحليل والتوجيه.
وفِي زحمة اتصاله بواقعه الخاص، مرّر موضوعيْن يستعصيان على الهضم أو الاستيعاب:
عدم نومه احياناً تَأثُّراً بدماء السوريين الأبرياء، وكأن صواريخ توماهوك هي مَن سحبتْ أظافر أطفال درعا وأفرغتْ أحشاء الطفل حمزة الخطيب وقطّعتْ حنجرة القاشوش ومثّلتْ بجثة غياث مطر وذبحتْ عشرات الآلاف في السجون وقتلتْ نصف مليون بالبراميل والقصف.
اعتباره عبارة “حُكْم آل الأسد” نوعاً من الأحلام أو الهلْوسات لأنها غير صحيحة. نعم، منذ نحو خمسين عاماً تقريباً، وسورية دولة مؤسسات ودستور وحريات تحت حكم ملكة الدنمارك مارغريت الثانية وليست تحت حكم الأسد. والكلام غير ذلك هو أحلام.. .
ما أكثر كوابيسكم في هذا المشرق، وما أبشع هلْوساتكم، وما أقسى ضحكاتكم على الهواء فيما غازاتكم تخنق هواء الأطفال … المطالَبين باعتذارٍ لأنهم حرَموكم النوم قليلاً.
alirooz@hotmail.com