ليس من الواضح ما إذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مطلعاً صورة كافية على تاريخ اليهود في العالم القديم، والأزمنة الحديثة. وليس في هذا ما يضيره، فلا أحد ينتظر من السياسي أن ينافس المؤرّخ أو ينوب عنه. ولكن من الواضح أنه يتكئ على التاريخ بطريقة انتقائية، ولأغراض دعائية، تشوّه الحقيقة التاريخية. وأبلغ مثال على ذلك اتهامه للحاج أمين الحسيني بتحريض هتلر على إبادة اليهود في زمن الحرب العالمية الثانية. وقد ردّت عليه، في حينها (بين آخرين) “دينا بورات”، كبير المؤرخين في متحف “ياد فاشيم”، المُكرّس لضحايا المحرقة، بالقول إنه مخطئ في كل ما قال.
مساء السبت الماضي، غرّد نتنياهو، صوتاً وصورة، على أغصان تويتر، في فيديو مع أطفال روى لهم قصة عيد المساخر، وسألهم عن العيد لاستخلاص العبر. “ماذا حاولوا أن يفعلوا بنا؟” يسأل. ويرد الأطفال: “قتلنا”. يسأل: “أين؟” يرد الأطفال: “في فارس”. “وهل نجحوا؟”، “لا”، يقول أحدهم، “بل وقع العكس”. يكرر نتنياهو الرد، ويزيد عليه: “واليوم، أيضاً، يريدون تدميرنا من فارس، ولن ينجحوا”.
قبل التغريد بأيام قليلة، كرر نتنياهو عبارات مشابهة، أمام الرئيس الروسي، بوتين، في موسكو، فتكلّم عن محاولة فارسية فاشلة وقعت قبل خمسة وعشرين قرناً لإبادة اليهود، وعن إيران، وريثة فارس، “التي تخطط لتدمير دولة اليهود”. وقد سبق لنتنياهو أن قدّم مرافعة مشابهة، في مثل هذا الشهر، قبل عامين، في سياق كلامه أمام الكونغرس الأميركي، عمّا ينطوي عليه الاتفاق النووي مع إيران، من مخاطر تهدد أمن ووجود إسرائيل.
لا بأس. يبدو أن قصة عيد المساخر تحظى بمكانة خاصة في ذاكرة نتنياهو، وتقوم مقام السلاح الثقيل في ترسانته البلاغية، ومرافعاته السياسية. ولا فائدة من تذكير المؤمنين الجدد والساسة، في أربعة أركان الأرض، هذه الأيام، بمخاطر قياس الحاضر على الماضي، ولا التذكير بحقائق من نوع أن الماضي لا يعود ولا يُستعاد إلا بطريقة انتقائية أولاً، وخدمة لحاجات الحاضر ثانياً. ففي الحالتين ما يجعل من الحقيقة التاريخية ضحية مثالية للتشويه والاختزال. ومع هذا وذاك، والأهم من هذا وذاك، أن “الذاكرة” التاريخية ليست حكراً على جماعة دون غيرها. وأن “الذاكرة” نفسها صناعة وبضاعة نجمت عن هندسة الماضي، بطريقة نفعية وانتقائية، في سياق إنشاء جماعات مُتخيّلة في الأزمنة الحديثة.
ليس لدى السياسي، والمؤمن الجديد، الوقت الكافي، ولا المؤهلات الضرورية، للتفكير في مناهج العلوم الإنسانية، وما أنجب العلم الحديث، من أدوات بحثية، وما فتح من آفاق معرفية جديدة. وبقدر ما يتصل الأمر بموضوعنا، فإن أحداً من علماء الآثار، والدراسات التوراتية، ومؤرخي الأزمنة القديمة، واللغات السامية، في الوقت الحاضر، لا يأخذ جيمس هنري برستد على محمل الجد، ولا يتعامل مع مُدوّنة الكتاب المُقدّس بوصفها مرجعاً لتاريخ الشرق الأدنى القديم.
على أي حال، لا يحتاج الأمر إلى أكثر من اتصال هاتفي بين السيد نتنياهو وإسرائيل فنكلستاين، أستاذ علم الآثار في جامعة تل أبيب، لإدراك أن استخلاص العبر، والكلام في التاريخ التوراتي، وعنه، يحتاج إلى مؤهلات أعلى بكثير من الشطارة في كسب أصوات الناخبين.
ومع ذلك، لا فائدة. فالسياسي، والمؤمن الجديد، معادٍ للثقافة عموماً، لا يثق بالعلم الحديث، ومناهجه، إلا إذا تجلّت في أشياء من نوع “الآيفون”، مثلاً، وأحدث صناعات وتقنيات الأسلحة. أما العلوم الإنسانية فهي في وضع لا تحسد عليه. فالمسيحية الإنجيلية (المعادية للسامية، وحليفة إسرائيل) تشن حرباً، لا هوادة فيها، على الداروينية، ونظريات نشوء الكون، ومناهج العلوم الإنسانية. ولا توازيها ضراوة سوى حرب الوهابية السعودية المعولمة على “العلمانية”، وكل مناهج العلم الحديث.
وطالما أن الشيء بالشيء يُذكر، لا مفر من الإشارة إلى وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الذي رد على تغريدة نتنياهو بتغريدة مضادة، ذكّره فيها أن الإيرانيين، في الأزمنة القديمة والجديدة، أنقذوا اليهود ثلاث مرّات. وما ذكرناه عن العلاقة الإشكالية بين المؤمنين الجدد والساسة وحقائق التاريخ، في التعقيب على كلام نتنياهو، يصدق، أيضاً، على السيد ظريف. فهو لا يحتكم إلى الرواية التوراتية بوصفها مدوّنة تاريخية وحسب، بل ويعيد تأويلها بطريقة نفعية وانتقائية للتدليل على فشل غريمه في فهم قصص التوراة، أيضاً.
“قورش الأكبر ملك فارس، عاش في القرن السادس قبل الميلاد، أنشأ إمبراطورية مترامية الأطراف، وسمح بعد هزيمة البابليين بعودة عائلات ارستقراطية من مملكة يهوذا من السبي البابلي إلى فلسطين (السبي البابلي لم يشمل كل السكّان، بل رؤوس العائلات). ويرى بعض علماء التاريخ القديم أن النزعات التمييزية، في اليهودية، التي تجلت في سفر عزرا الكاتب، نشأت بعد عودة هؤلاء، ومحاولة استعادة أملاكهم السابقة، وتمييز انفسهم عن السكّان المحليين”
من المبالغة، وفرض الحاضر عنوةً على الماضي، التفكيرُ في الدول القائمة في عالم اليوم بوصفها وريثة لدول وشعوب وأقوام سبقتها، في إقليمها السياسي، أو في بقعة جغرافية أوسع، على مدار آلاف مؤلفة من السنين. وأقل ما يُقال في قدر كهذا من التماهي أنه قد يُحوّل الأحياء إلى رهائن في قبضة أموات حقيقيين أو مُتوهّمين يطالبونهم بتسديد ثاراتهم، وقد يُحوّل الموتى، أيضاً، إلى رهائن لاستيهامات قيامية أفسدت عالم الأحياء. شواهد هذا وذاك عصيّة على الحصر.
والأهم: لا يصبح وهم الاستمرارية التاريخية، وقياس الحاضر على الماضي، ممكناً دون تجاهل ما أنجبت دينامات الاختلاط، والهجرات، والغزوات، والكوارث الطبيعية، في هذه الرقعة الجغرافية أو تلك، من أقوام وديانات ولغات وثقافات وكيانات، سادت ثم بادت، على مدار قرون طويلة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بأسئلة من نوع: مَنْ قتل مَنْ، ومَنْ أنقذ مَنْ؟ فهي تعني المؤرخين، وتتحوّل إلى عبوّة ناسفة في يد الساسة، والمؤمنين الجدد، في عالم ما بعد الحقيقة الذي أنشأته الطفرة التكنولوجية. لدى الكل هذه الأيام تاريخه وخلاصاته، في فضاء افتراضي شاسع، بلا دليل ولا برهان، والعالم مريض.
khaderhas1@hotmail.com