ليس ادلّ من رغبة المجتمع الدولي في التوصّل الى تسوية سياسية في سوريا غير القرار الصادر عن مجلس الامن التابع للأمم المتّحدة الذي يدعم الاتفاق الروسي ـ التركي الذي يفرض وقفا لاطلاق النار في هذا لبلد المنكوب.
جاءت استجابة مجلس الامن لما تسعى روسيا وتركيا الى فرضه على الأرض سريعا. لكنّ الواضح ان لدى ايران حسابات أخرى، خصوصا انّها تخشى التوصل الى توقف العمليات العسكرية في سوريا قبل ان تؤمن عزل دمشق عن محيطها السنّي. وهذا يفسّر الى حدّ كبير الاستماتة الايرانية من اجل تهجير أهالي وادي بردى الذي يشكلون آخر تجمّع سنّي كبير في محيط دمشق من جهة وعلى طول الحدود اللبنانية ـ السورية من جهة أخرى.
مطلوب، إيرانيا، ان يكون بين سوريا ولبنان منطقة عازلة ليس فيها سوريون سنّة، أي معارضون للنظام يمثلون جزءا من الشعب السوري الساعي الى استعادة بعض من كرامته. بكلام أوضح، مطلوب ان يكون هناك ممرّ آمن بين سوريا ولبنان، بين مناطق معيّنة في سوريا ومناطق دويلة “حزب الله” في لبنان حيث لا مكان للسلاح الشرعي التابع للدولة اللبنانية.
لم يكن في استطاعة النظام السوري والميليشيات الايرانية التي تدعمه العودة الى حلب والانتقام من أهلها لولا تركيا وروسيا. تبدو روسيا اكثر من ممتنّة لتركيا على الدعم الذي قدّمته لها والذي سمح بتهجير قسم لا بأس به من اهل حلب. من دون تركيا ما كان للحملة الجويّة الروسية ان تنجح في حلب. اوقفت تركيا شريان الحياة الذي كان يسمح بتزويد المقاتلين في شرق حلب بكل ما يحتاجون اليه. كان هؤلاء، في معظمهم، من أبناء حلب. كانوا سوريين انتفضوا في وجه النظام الاقلّوي الذي حول سوريا الى مزرعة للطائفة في عهد حافظ الأسد، ثمّ مزرعة للعائلة في عهد بشّار الأسد.
من لديه بعض من ذاكرة يستطيع العودة الى سبعينات القرن الماضي عندما كانت حلب رأس الحربة في التصدي للنظام المذهبي الذي أقامه حافظ الأسد في العام 1970، وهو نظام اسّس له الانقلاب الذي حصل في الثالث والعشرين من شباط ـ فبراير 1966. جاء ذلك الانقلاب بالضباط العلويين الى السلطة وكان مجرّد تمهيد لاحتكار حافظ الأسد لها في العام 1970 مكافأة له على تسليم الجولان لإسرائيل عندما كان وزيرا للدفاع في حزيران ـ يونيو 1967.
لم يكن الانتصار على حلب واهل حلب ممكنا من دون روسيا وتركيا. لو شاءت تركيا، لما كان المقاتلون في حلب على استعداد للاستسلام والرحيل حفاظا على ما بقي من المدينة. كذلك، لم يكن في استطاعة أي ميليشيا مذهبية تابعة لإيران دخول الاحياء الشرقية لحلب لولا سلاح الجوّ الروسي. من سيقبض ثمن الانتصار على حلب وأهلها هو روسيا وتركيا. تمكّن البلدان من وضع نفسهما في موقع القادر على التفاوض في شأن مستقبل سوريا والمقتدر على ذلك. سيذهبان الى اجتماع استانا في كازاخستان، هذا الشهر، من موقع قوّة. وهذا الاجتماع في عاصمة كازاخستان سيكون الاجتماع التمهيدي لمفاوضات تجري في جنيف لاحقا، في شباط ـ فبراير المقبل على الأرجح، برعاية الامم المتحدة وحضور الولايات المتحدة بادارتها الجديدة.
لم تكن ايران شريكا أساسيا في معركة حلب. كانت شريكا ثانويا لا اكثر. كانت مجرّد أداة في عملية اكبر منها، مثلها مثل النظام السوري. اللاعبان الاساسيان هما روسيا وتركيا وفي مرحلة مقبلة الإدارة الاميركية الجديدة التي تبدو على استعداد للتعاطي بطريقة عملية مع فلاديمير بوتين. هناك وزير جديد للخارجية الاميركية يدعى ريكس تيلرسون يعرف تماما كيف تعقد الصفقات مع الكرملين في عهد بوتين. لديه خبرة في ذلك مذ كان رئيسا لشركة “اكزون ـ موبيل”، احدى اكبر شركات النفط في العالم.
هل تقبل ايران بدور الشريك الثانوي في ما يخصّ تحديد مستقبل سوريا؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذه الايّام، أي في مرحلة ما بعد حلب. كيف ستردّ ايران على الحلف الجديد بين روسيا وتركيا، وهو حلف مرشّح لان يكون له امتداد أميركي بعد تولي دونالد ترامب مهماته رسميا في العشرين من الشهر الجاري؟
ليس مستبعدا ان تتابع ايران معركة وادي بردى لتأكيد انّها الطرف الذي يسيطر على دمشق حيث يقيم بشّار الأسد. اكثر من ذلك، ليس مستبعدا أيضا ان تزيد ايران ضغوطها على لبنان لاثبات انّه مجرد مستعمرة لها وان “حزب الله” هو الحاكم الفعلي للبلد.
يستبعد ان تقبل ايران بدور اللاعب الثانوي في سوريا. كانت تعتقد انّها جزء لا يتجزّأ من النظام المذهبي القائم، خصوصا بعدما خلف بشّار الأسد والده ووضع كلّ بيضه في سلّة “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني.
ليس امام ايران من خيار سوى الردّ على الحلف الروسي ـ التركي ذي الامتداد الإسرائيلي من جهة والذي وضع نفسه في موقع المستعدّ للتفاهم مع إدارة دونالد ترامب من جهة أخرى.
ستلجأ ايران الى كلّ اوراقها لتأكيد انّها لاعب أساسي في سوريا، المدينة لها بثلاثة وثلاثين مليار دولار هي ثمن الاستثمار في عملية قمع الشعب السوري المستمرّة، بنجاح عظيم، منذ العام 2011، أي عندما انتفض السوريون من اجل يقولوا انّهم ما زالوا شعبا حيّا يرفض كلّ ما يمثّله حزب البعث بكل تخلّفه وبكلّ النسخات التي ظهر فيها ان في سوريا او في العراق منذ العام 1963.
في النهاية، ستكشف سوريا ايران. ستكشف ان النظام فيها ليس سوى نظام ينتمي الى عالم آخر لا علاقة له بعالم القرن الواحد والعشرين. يستطيع هذا النظام، الذي ليس لديه ايّ نموذج صالح او ناجح يقدّمه لمحيطه، الاستثمار طويلا في كلّ ما من شأنه اثارة الغرائز المذهبية في الشرق الاوسط. يستطيع لعب دوره في تدمير العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولكن ماذا بعد ذلك؟ هناك استحقاقات لم يعد في إمكانه تفاديها. على رأس هذه الاستحقاقات تأتي سوريا وعملية إعادة اعمار سوريا. ما الذي تريده ايران في سوريا غير استمرار الحرب التي يشنهّا النظام على اهلها؟
عاجلا ام آجلا سيترتب عليها الإجابة عن سؤال مرتبط بالحدّ الذي يمكن الذهاب في المواجهة مع الحلف الجديد بين روسيا وتركيا، مع ما يعنيه ذلك من افشال لوقف النار. ربّما كان السؤال الاصح: الى ايّ حد يمكن ان تذهب ايران في مواجهة هذا الحلف الذي لديه بدوره مشكلة عميقة. تكمن هذه المشكلة في انّه يتجاهل بدوره انّ ثورة الشعب السوري ثورة حقيقية وان ما حدث في حلب بداية وليس نهاية…