إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
في كلمته الأخيرة، رفع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله شعار “الدماء مقابل الدماء” في ردّه على المجزرة التي راح ضحيّتها ثمانية مواطنين من النبطية، قُتلوا بصاروخ إسرائيلي.
شعار نصرالله يذكّر، شكلاً ومضموناً، بشريعة “العين بالعين والسنّ بالسنّ”، التي وردت في قانون حمورابي، الذي هو سادِس مُلوك السُلالة البابلية الأولى وأول مُلوك الإمبراطورية البابلية، وقد دامَ سُلطانه قرابة الـ42 عاماً ما بين الـ1792 – 1750 قَبلَ الميلاد.
وإن كان حمورابي اشتهر بشريعته هذه، فما ليس معروفاً على نطاق واسع هو أن هذا المفهوم رُوّج له أيضاً قبل ثلاثة آلاف عام ومن بني إسرائيل، في التوراة، إذ ينصّ سفر الخروج (21: 23-25): “وإن حصلت أذيّة تعطي نفساً بنفس..وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد، ورجلاً برجل…”، كما ينص سفر تثنية (19: 21): “لا تشفق عينك. نفس بنفس. عين بعين. سن بسن. يد بيد. رجل برجل…”.
شريعة “العين بالعين والسن بالسن” في عرف حمورابي كما في عرف التوراة، صدرت لتطبّق في ايام السلم، والسؤال المطروح هو اذا كانت تصلح للتطبيق في ايام الحرب، كما يحاول نصرالله فعله.
الجواب، الذي يبدو بديهياً لأوّل وهلة، هو أن كلّ ممارسة للعنف يمكن تطبيقها أيام الحرب أكثر مما يمكن تطبيقها أيام السلم، فكيف إذا كان العدو إسرائيل، الدولة الإرهابية التي تعمل على إبادة الشعب الفلسطيني.
هذا الجواب لا يرضي على ما يبدو البطريرك الراعي. فأيام قليلة بعد خطاب نصرالله، وفي عظته يوم الأحد، قال الراعي ما حرفيّته: “الحرب تولّد حرباً والدمار وتشريد المواطنين على الطرقات. وعلمنا الرب أن نستبدل شريعة العين بالعين والسن بالسن بشريعة المحبة. إن البطولة ليست في صنع الحرب بالأسلحة المتطورة، إنما البطولة في العقل وتجنب الحرب وصنع السلام. فالحرب تولّد الحرب، والقتلُ القتل، والاعتداءُ الاعتداء. تعلّمنا الكنيسة أنّ البشر أجمعين ضعفاء، وكونهم خطأة فهم دائمًا عرضة للتهديد بالحرب. ويمكنهم التغلّب عليها وتجنّبها وإيجاد الحلول للنزاعات بالعدالة والمحبّة والحقيقة. في ضوء تعليم الكنيسة هذا، نقول إنّ البطولة ليست في صنع الحرب بالأسلحة المتطوّرة الهدّامة، بل البطولة هي في العقل والإرادة والقلب الداعين والساعين إلى صنع السلام وتحقيق العدالة وتغليب المحبّة. البطولة هي في تجنّب الحرب، لا في صنعها”.
لا أعرف إن كان الراعي في عظته هذه يردّ على نصرالله، من دون أن يسمّيه، كما كان هذا الأخير قد ردّ في خطابه على الراعي من دون أن يسمّيه أيضاً، بخصوص ترسيم الحدود البريّة وانتخاب رئيس للجمهورية. لكن الأكيد أن شعار “الدماء مقابل الدماء” يذكّر بشريعة “العين بالعين والسن بالسن”، التي استذكرها الراعي في عظته.
لن أناقش وجهة نظر البطريرك الراعي المناقضة لما طرحه نصرالله، والمنطلقة من إيمانه المسيحي، الذي يناقض لا بل ينقض ما جاء في التوراة وفي شريعة حمورابي على حدّ سواء. كما أنني لن أتساءل إلى أي مدى يمكن لهذه المحبة المسيحية أن تفعل فعلها بوجه وحش مثل إسرائيل.
سأذهب مباشرة إلى السؤال الأهمّ الذي يعني نصرالله تحديداً، وهو إن كان شعار “الدم بالدم” يخدم هدف “حزب الله” في مساندة “حماس”، في حربها مع إسرائيل في غزة. باعتقادي أنه لا يخدمه لسببين جوهريين:
السبب الأول، أن الخلفيّة الأخلاقية لشريعة “العين بالعين والسن بالسن”، أو “الدم بالدم”، كما أضاف نصرالله، هي أن ذنب البادىء أعظم. فإن كان نصرالله يستطيع القول إن إسرائيل هي التي بدأت بقتل المدنيين، إلا أنه لا يستطيع إنكار أن حزبه هو من بدأ الحرب مع إسرائيل في الجنوب، وقد تكرّر هذا الاعتراف مراراً على لسان نصرالله.
أما السبب الثاني، فهو أن مساندة “حماس” في غزة، من خلال فتح جبهة الجنوب اللبناني، وعلى لسان نصرالله أيضاً، تكون عبر إشغال وإنهاك الجيش الإسرائيلي على جبهة ثانية، وهذا لا يتم بالطبع بقصف المدنيين وبقتلهم، أي بتطبيق شعار “الدم بالدم”، بل بالاستمرار بدكّ مواقع الجيش الإسرائيلي وآلياته؛ وإلّا تكون إسرائيل قد نجحت باستدراج “حزب الله” إلى ميدان آخر، لا ينهك جيشها، بل يشتت المجهود الحربي لخصمها، ويمنعه من نحقيق هدفه.
قال المهاتما غاندي إنه “لو طبّقنا قاعدة العين بالعين والسن بالسن على البشر لصار العالم كلّه من العميان”. ومن نتائج هذا العمى هو عدم وضوح الرؤية والخلط بين الهدف والوسائل، التي سرعان ما تحلّ محلّه.
(“النهار”)