كان اللص يبحث عن شيء يسرقه من غرفة على السطوح وصاحبها نائم، وحين أعياه البحث، وقبل أن يهمّ بالخروج، فاجأه النائم الصاحي بضحكة مجلجلة قائلا له “ما تبحث عنه في الليل أبحث عنه أنا في الليل وفي النهار”. هذه النادرة التي حصلت فعلا مع عبد المطلب الأمين رويتها لسامي الجميل رئيس حزب الكتائب حين راح يشكو لنا فساد السياسة والسياسيين بلغة تشبه لغتنا اليسارية القديمة وتطلعات الجيل اليساري الجديد.
أمضينا عمرنا النضالي ونحن نبحث عن حشرة الفساد التي تنخر جسد الوطن. قلنا، بلغتنا اليسارية السوفياتية، إنها الطغمة المالية والرأسمالية العالمية والصهيونية والاستعمار. ويبدو أكيداً أننا “كبّرنا حجرنا” أو أننا استخدمنا أسلحة من نوع “ميس ميس”، (حملت الصواريخ هذا الاسم لأن المقاومين الأوائل كانوا يطلقونها من أراضي ميس الجبل في الجنوب اللبناني فتسقط في أراضي ميس الجبل)، بحيث بدا أن حزب الكتائب يجسّد، في نظرنا، كل هذه الترسانة من الأعداء مجتمعين. وقع عليه ظلمنا مثلما وقع ظلمه علينا، مع أن لكل منا حصته من المسؤولية في تخريب هذا الوطن الجميل.
بشير الجميل مثّل ذروة هذين الظلم والظلامة، لأننا كنا مقتنعين يومذاك بأن استبداد ذوي القربى لم يكن “أشد مضاضة”، بل “لذيذ” مثل لحس المبرد، وأن القهر الوحيد لا يمكن أن يأتي إلا من العدو الخارجي أو من عملائه في الداخل، وحسبنا أن انتخاب الرئيس ما كان ليحصل لو لم يرتض لنفسه دور عميل للاحتلال. أخطأ بشير الجميل مثلما أخطأ اليسار بالتمام والكمال، في توهم كل منهما القدرة لا على استدراج الخارج فحسب بل على استخدامه أيضاً، وعدوا ذلك ضرباً من الشطارة اللبنانية، ولم ينتبه ولا انتبهنا إلى قول المتنبي، ومن يجعل الضرغام للصيد بازه …… تصيده الضرغام في ما تصيدا. ضحكت إسرائيل منه حين جهر بوطنيته، مثلما ضحك الآخرون ويضحكون من غباء القوى ” القومية والاسلامية” التي استفظعت الاستقواء بـ”العدو” فاختارت الاستقواء بـ”الصديق” واستمرأته . العدو لا يشبه الصديق، هذا صحيح. لكن الاستقواء بالخارج واحد، صديقاً كان هذا الخارج أو عدواً. استدراج الخارج الفلسطيني والسوري والإيراني وكذلك الاسرائيلي ليس سوى تفريط بالسيادة والوحدة الوطنية.
كان لا بد إذن، بمقاييس تلك الفترة، من الاعتراض على رئاسته وحجب الشرعية الشعبية عنها. وكان علي أن أشارك شخصياً في هذه المهمة “الجليلة” بالحؤول دون زيارة كان ينوي مصطفى سعد، زعيم الحركة الوطنية اللبنانية في صيدا، القيام بها إلى القصر الجمهوري لتهنئة الرئيس بانتخابه رئيساً، وذلك لحرمان الرئيس المنتخب من مباركة المدينة السنية لهذا الانتخاب.
لماذا أنا بالذات؟ لأن صداقة متعددة الأواصر تجمعني بهذا الرجل. أنا من قلة يعرفون أنه انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني يوم كان طالباً في الاتحاد السوفياتي، وحافظ على صداقته للحزب ولمن يعرفهم ويعرفونه من أعضائه، بعد أن عاد لإدارة ميراث من العمل الوطني تركه له والده معروف سعد، الذي بدأت الحرب الأهلية باغتياله، قبل أن تبدأ ببوسطة عين الرمانة. وأنا من قلة كانوا يعدون له الخطابات المكتوبة ونصوص مؤتمراته الصحافية، ومن قلة كانت تلتئم في لقاءات عائلية دائمة معه ومع عائلته. وكان لنا وحدنا، أنا وزوجتي، فضل عليه حين ساعدناه على العودة من خارج مناطق الاحتلال إلى صيدا بعيداً عن أعين الجيش الاسرائيلي و”عملائه”.
رد أبو معروف هذا الجميل مرتين، في الأولى حين استجاب لطلبي وامتنع عن زيارة القصر الجمهوري، لكن ذلك حصل بمساعدة أصدقاء آخرين حين لبى دعوتنا إياه على العشاء وطال السهر، ولم يأوِ إلى فراش النوم إلا مع الفجر إلى أن انقضى موعد الزيارة. تفرج الدول عن بعض أرشيفها بعد خمسة وعشرين عاما، أما أرشيف السيرة الشخصية فإن العقود الثلاثة التي تفصلنا عن ولاية بشير الجميل، التي لم تبلغ مدتها الشهر، تكفي لكشف ما يشبه السر. ولست أعلم بعد مرور هذا الوقت، ما إذا كنت قد صنعت جميلاً أم أذية بحق الوطن؟
وفي الثانية بالإساءة إليّ هذه المرة، بعد أن كان أبو معروف قد بدل موقفه من رئاسة آل الجميل ومن “جيشهم” وقيادته، فاختار أن يوظف صداقتي المشتركة معه ومع أحد أقربائي من ضباط الجيش اللبناني، ليعتقله متهماً إياه والجيش وجهاز المخابرات بالشراكة في عملية التفجير التي أودت بحياة ابنته. جئته إلى بيته حانقاً غاضباً وقلت له، حادثة التفجير أفقدتك البصر لكن من جعلتهم “عيوناً” للمراقبة أفقدوك البصيرة. كان خطأه بحقي شديد الوطأة عليه، شعر بالندم وأدمعت عيناه خلف نظارته السوداء، وانسحب طالباً مني البحث عن مخرج مع شقيقه الدكتور أسامة.
حملني انتخاب بشير الجميل عبئاً واغتياله عبئاً أكبر. في صباح الرابع عشر من أيلول خطفت القوات اللبنانية المناضل محي الدين حشيشو من بيته، مع مئات آخرين اختفوا انتقاماً لاغتيال الرئيس. كنت أسكن في الحي ذاته مع الرفيق محي الدين، والخاطفون عناصر قواتية من جيراننا. زرت بيتهم مساء لأطمئن على مصيره. استقبلني والدهم وحاول أن يزيل مخاوفي، فيما نحن نشاهد في التلفاز مراسم تشييع الجنازة في بكفيا، قائلاً أن الأمر لا يعدو كونه “كم سؤال وجواب بس”. ولكي يؤكد لي ذلك لامني على خروجي من المنزل في صباح ذلك اليوم لأن حزب الكتائب لا يستهدف، بحسب قوله، غير الفلسطينيين، أما اليساريون اللبنانيون ففي أمان. وحين أجبته بنوع من الكبرياء والتحدي المهذب بأنني لم أغادر منزلي، أخبرني أن الخاطفين قرعوا بابي ولم يجدوني. والحقيقة أن شاباً من الجيران رأى بأم عينه عملية الخطف والخاطفين وسارع إلى تنبيهي، فخرجت من منزلي لأعود بعد أسبوع، غير أن محي الدين حشيشو غادر مع الخاطفين ولم يعد.
لم تكن المرة الأولى التي أنجو فيها من قرار القوات اللبنانية باغتيالي. في المرة الثانية، وعلى بعد أشهر، كانت نجاتي على يد مقاتل من القوات، قادم من واجب الحراسة في موقع، قد يكون هو الموقع الذي دفنوا فيه حادثة الخطف وضحايا آخرين. أتاني لاهثاً خائفاً ونبهني، بعد أن قرأ اسمي في عداد لائحة معدة للقتل.
ليس غريباً أن يعيش داخل كل حزب وكل حزبي قاتل ومنقذ. أبطال الحرب الأهلية اللبنانية كلهم يشبهون هذا الحزبي. ألم يزعموا أنهم قاتلوا لينقذوا الوطن فقتلوه؟ أجزم أنهم كانوا جميعاً صادقين، وأن من الحب ما قتل، وأجزم أن استدراج الخارج لا يبني وطناً بل يخربه بالحرب الأهلية.
نقلاً عن “المدن“