يمكن تفسير العداء الايراني لدول وشعوب الخليج العربي من منطلقات تاريخية قديمة، وتباينات قومية وثقافية ومذهبية، تلقي بظلالها على سياسات طهران الخارجية فتدفعها إلى دس أنفها في شئون المنطقة العربية عموما، تحريضا وتخريبا.
غير أنه لا تفسير لحالة العداء ما بين إيران وجارتها الشمالية أذربيجان، سوى أن النظام الإيراني الحالي يتصرف من وحي عقيدة الغطرسة، والهيمنة على الآخر وتركيعه وإقصائه، وهو ما جعله يعيش حالة عزلة مريرة، فلا يجد له أصدقاء في المجتمع الدولي سوى بعض الأنظمة الفاشية والشمولية التي تعيش خارج مدارات العصر، ولا تريد أن تعترف بنواميس القانون الدولي، وأعراف المجتمعات المتحضرة في التعاون وحسن الجوار.
فأذربيجان لا تشترك مع إيران في حدود مباشرة يزيد طولها على 760 كيلومترا، أوفي الإطلالة المشتركة على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز فحسب، وإنما تشتركان أيضا في الروابط العرقية، إذ ينتمي نحو ثلث الشعب الإيراني إلى العرق الآذاري ويتحدث الفارسية إلى جانب التركية. بينما يدين 93 بالمئة من الآذريين البالغ عددهم 9.5 مليون نسمة بالإسلام (70 بالمئة منهم من الشيعة، ومعظم هؤلاء من الشيعة الإثنى عشرية الذين يتبعون مراجع دينية في قم أو في تبريز عاصمة إقليم آذربيجان الإيراني)، هذا إضافة إلى حقيقة أن آذربيجان برزت كثاني دولة شيعية في العالم بعد إيران، وذلك بــُعيد إنسلاخها عن الإتحاد السوفيتي في عام 1991 . ثم أن للبلدين تاريخا مشتركا يعود إلى ما قبل زمن التتار، وغزوات جنكيز خان وهولاكو وتيمور لنك، وتحديدا إلى عام 1220.
وفي هذا التاريخ محطات مهمة جديرة بالذكر: فحينما انحسر النفوذ الروسي في مطلع القرن العشرين عن آذربيجان أعلن الآذاريون إستقلالهم عن الروس في عام 1918 وجعلوا نهر “أراس” المتجمد حدا فاصلا بينهم وبين بلاد فارس، وعارضوا أي نوع من أنواع الإلتحاق بالأخيرة تحت ضغوط العواطف المذهبية، بسبب سياسات إيران القومية التمييزية ضد الأقليات. وبعدما إنتصرت ثورة أكتوبر البلشفية استرجع الروس آذربيجان في عام 1920، وألحقوها بالإتحاد السوفيتي. وأثناء الحرب العالمية الثانية قدم الروس مساعدات لحزب “توده” الشيوعي الإيراني مع تحريضه على احتلال إقليم آذربيجان الإيراني إستعدادا لإلحاقه بجمهورية آذربيجان السوفيتية. وقد نجح الروس بالفعل في احتلال أجزاء من هذا الإقليم، لكن دخول قوات الحلفاء إليه أجبرهم على الجلاء وإسدال الستار على أحلامهم.
رغم كل هذه المشتركات المفترض فيها أن ترسى لعلاقات شراكة وتعاون وثيقة ما بين الجانبين، نجد أن طهران اتخذت جانب أرمينيا المسيحية، الجارة اللدودة لآذربيجان المسلمة، في خلافهما حول إقليم “ناغورنو قره باغ”، ضاربة بعرض الحائط مباديء التضامن الإسلامي. كما أن طهران وقفت ضد آذربيجان الأقرب لها ثقافة ومذهبا في نزاع الأخيرة الحدودي مع تركمانستان في عام 2001 . ولم تكتفِ طهران بذلك، بل قامت بإنشاء ودعم شبكة داخل آذربيجان بهدف القيام بعمليات إغتيال للدبلوماسيين والسواح ورجال الأعمال الإسرائيليين (قام 3 أشخاص بالفعل بمهاجمة موظفين في المدرسة اليهودية في باكو في عام 2012 ، واتضح من التحقيق معهم أنهم تلقوا أموالا وأسلحة من الحرس الثوري الإيراني) الأمر الذي دفع السلطات الآذرية إلى محاصرة ومراقبة تحركات الدبلوماسيين الإيرانيين وأعضاء بعثاتهم التجارية ومراكزهم الثقافية. فجاء رد طهران في صورة سحب سفيرها من باكو “محمد باقر بهرامي” في مايو 2012 مصحوبا كالعادة بمبررات مثل إلقاء اللائمة على مؤامرات الصهاينة والشيطان الأكبر “التي لا تريد الخير للأمة الإسلامية”، وإتهام حكومة باكو بالتمادي في التعاون الإقتصادي والعسكري مع تل أبيب، وسماحها لشعبها بالتظاهر بحرية ضد الحكومة الإيرانية وسياساتها القمعية إزاء أقلياتها، وموقفها المؤيد لنظام الأسد الديكتاتوري في سوريا. غير أن الأغرب من كل هذا، هو أن طهران أضافت ضمن ما ساقته من مبررات سحب سفيرها، قيام باكو بالتدخل في الشأن الإيراني عبر احتضانها لبعض المعارضين الإيرانيين، وعلى رأسهم رموز في تنظيم “مجاهدي خلق”، وكأنما طهران لا تدس أصابعها في كل مكان، إبتداء بمراكش وإنتهاء بالبحرين، وتحرض، وتؤسس الميليشيات والخلايا النائمة للإنقضاض على الأنظمة الشرعية.
المراقبون الذين راقبوا عن كثب العلاقات الإيرانية- الآذارية التي شهدت أفضل فتراتها حينما كان حيدر علييف رئيسا في باكو (زار طهران في عام 2002) ومحمد خاتمي رئيسا في طهران (زار باكو في عام 2004)، يرون أن تاريخ ضعف ثقة الآذاريين في النظام الإيراني الحالي قديم نسبيا، ويعود إلى اليوم الذي همش فيه الإمام الخميني زميله في النضال ضد حكم الشاه، وحاميه من مطاردات جهاز السافاك “آية الله شريعتمداري“. ولم يكن سبب تحجيم الخميني لشريعتمداري، وفرض الإقامة الجبرية عليه، والتراجع عن تسميته كخليفة له، سوى ان الأخير آذري لا ينتمي إلى القومية الفارسية. ويبدو أن تلك الثقة تراجعت أكثر بقيام الخميني بالتخلص من كل رفاق ومؤيدي شريعتمداري في حزب “شعب إيران المسلم” بالإعدام شنقا في عام 1979، الأمر الذي تسبب في حدوث صدامات واسعة، وعصيان مدني كبير في تبريز ما بين عامي 1979 و 1980. ولم يكن هناك مجال لعودة الثقة حتى في ظل وجود شخص آذاري في قمة السلطة في طهران مثل المرشد الحالي “علي خامنائي”.
وفي المقابل يتملك النظام الإيراني أكثر من هاجس. فهناك هاجس تطور التعاون بين باكو وتل أبيب إلى درجة تسمح معها الأولى للثانية بإستخدام أراضيها لضرب المفاعلات النووية الإيرانية. وهناك هاجس احتمال أن تشكل آذربيجان بنظامها العلماني المنفتح (على الرغم من ديمقراطيتها المشوهة) نموذجا قد يغري الإيرانيين للإنقلاب على نظامهم الحالي في ثورة شعبية أو عصيان مدني، خصوصا وان هؤلاء يترددون بكثرة على باكو للسياحة والاستمتاع بكل ما يحرمه عليهم نظامهم تحت يافظة “الفضيلة والإلتزام بالأخلاق الإسلامية”، وأثناء ذلك يتأثرون بما يجري في آذربيجان سياسيا لجهة المحاولات التي يقوم بها معارضو نظام الرئيس “إلهام علييف” من أجل دولة أكثر ديمقراطية وشفافية وعدالة، والتكتيكات والأساليب التي يطبقونها لتحقيق هذا الهدف. أضف إلى ذلك الخوف من تنامي محاولات البعض في آذربيجان لبعث الشعور القومي لدى آذاريي إيران وتحريضهم على الإنسلاخ عن إيران والإنضمام إلى الوطن الأم.
وفي هذا السياق، لابد من التذكير بأن النائب في البرلمان الآذاري “قدرات غسان غولييف” قدم إقتراحا في العام الماضي بتغيير إسم البلاد إلى “جمهورية آذربيجان الشمالية”، وهو إقتراح ينطوي على الإيحاء بوجود أراض آذارية جنوبية سليبة يجب إستعادتها (من إيران طبعا).
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh