عاد الإمام الصدر إلى لبنان عام 1959 (أي عشية انتهاء الثورة والثورة المضادة وبداية العهد الشهابي) وفي رأسه وعقله مشروع، بحجم معنى لبنان ودوره كما وصفه شمس الدين..
قرأ الإمام الصدر تقارير بعثة ايرفد (“حول حاجات وإمكانيات التنمية في لبنان”- صدر عام 1960) وتابع بدايات التجربة الشهابية في مجال الدراسات التنموية والتخطيط الاقتصادي والإنعاش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي… وهو استند إلى هذه التقارير والمتابعات لفضح هول الواقع الذي عاشته وتعيشه مناطق تمركز فيها البؤس والحرمان والفقر (الجنوب وبعلبك – الهرمل وضواحي بيروت ).. ولم يكتف الإمام بالدراسات والتقارير… فهو ساح في طول البلاد وعرضها وانتقل من بيت إلى بيت ومن قرية إلى قرية في رحلة استكشاف ميدانية جعلته قريبا من نبض الناس وهمومها..وهو الأمر الجديد في الوسط الديني الشيعي اللبناني الذي كان يكتفي بالوعظ والإرشاد..(وله في ذلك كلمة لطيفة:”إذا كانت شغلتي هي الصوم والصلاة فقط، ومسائل الزواج والطلاق، فإنني سأرحل إلى بلد آخر، فأرض الله واسعة… إنني صاحب رسالة مؤتمن من المرجع الأعلى”-أي السيد الحكيم)… وقد تحرك الإمام في طول البلاد وعرضها معايشاً آلام الناس وحرمانهم، ناسجا علاقات المودة والمحبة والإنسانية الحميمة مع كل الفئات… وتلك كانت أولى بذور رؤيته المميزة لأي مشروع إصلاحي: الناس البسطاء الفقراء الشرفاء هم الأساس. وهو انشأ الجمعيات والمؤسسات..وحاضر وناقش وتحدث في كل الأمكنة من المساجد والكنائس إلى البيوت والنوادي والمراكز الثقافية مركزا على وظيفة الدين في الاستقامة الأخلاقية وفي الصدق وفي المحبة والتعاون… وتلك كانت القاعدة الثانية في رؤيته الإصلاحية…… وشارك في إطلاق الحركة الاجتماعية ( مع الأب غريغوار حداد)، وحوارات الندوة اللبنانية (مع ميشال الأسمر والأب يواكيم مبارك والأب جورج خضر والشيخ صبحي الصالح ) وندوة الدراسات الإنمائية (مع الدكتور حسن صعب)… ناهيك عن عشرات الجمعيات والمنتديات التي كان لها لاحقا الفضل والدور في بناء كوادر المحرومين (معهد الدراسات الإسلامية و مهنية جبل عامل على وجه الخصوص) وإطلاق المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي..
وهو كان يؤمن بالعمل البسيط المثابر لإنجاز تغييرات بنيوية… وتلك ميزة إيرانية كان اللبنانيون يفتقرون إليها… فها هو ذلك الإمام الكبير يعمل مع عشرات المتطوعين على إعادة تأهيل وتفعيل مسجد صور ونادي الإمام الصادق فيها ثم جمعية البر والإحسان الخيرية…ثم في جمع التبرعات والمساعدات لإنشاء مشروع القضاء على التشرد والتسول في مدينة صور… ثم في إيواء وتعليم الأيتام ومساعدة المحتاجين وصولا إلى تأسيس مهنية جبل عامل ومدرسة البنات (بيت الفتاة) ومدرسة الخياطة والتفصيل ومدرسة محو الأمية… وغيرها من المشاريع الصغيرة البسيطة التي أرست القاعدة الثالثة للرؤية الإصلاحية: العمل المثابر والمتواصل والتقدم ببطء وإنما بثبات في تحقيق الإنجازات مهما كانت صغيرة، للمراكمة والبناء عليها…وأول نص مسجل وموثق للإمام (على حد إطلاعي) هو خطابه أو بيانه الأول بصفته ناظرا عاما لجمعية البر والإحسان في صور (صدر بتاريخ 31-12-1961) وفيه يستعرض الإمام أعمال الجمعية خلال عام 1961 أي منذ مباشرته العمل فيها حيث يقول:”وباشرنا العمل معا في أوائل سنة 1961 بتطوير القانون الأساسي والنظام العام فأصبحت الجمعية تعاونية تركزت فيها طاقات جميع المواطنين في صور وصدقاتهم تقريبا”…
وهنا القاعدة الرابعة في المشروع الإصلاحي للصدر:تركيز طاقات الجميع في مشاريع محددة… وقد بلغ عدد أعضاء الجمعية في عام 1961 حوالي الألف من الرجال والنساء..وفي كلمته عن أعمال الجمعية للعام 1962(31-12-1962) يدحض الإمام الفكرة القائلة بان الجمعية طائفية تسعى لخدمة فئة معينة من المواطنين ويؤكد على أنها لا تفرق بين الناس وهي تقوم بأداء واجبها الاجتماعي في علاج مشكلة الفقر والمرض والجهل في صور دون النظر إلى الطائفة أو المذهب… إلا أنه يؤكد أيضا على قيام الجمعية بدورها الخاص في الوسط الإسلامي الشيعي (إقامة الشعائر، إدارة الأوقاف، مراقبة المسجد والمجالس الحسينية الخ..)..وهنا القاعدة الخامسة في مشروعه وهي أن انتماء الجهة الإصلاحية إلى هذه الطائفة أو تلك أو هذا المذهب أو ذاك لا يؤدي بالضرورة إلى طائفيتها… فالعبرة في الخطاب وفي المشروع وفي النية وفي العمل من اجل إصلاح البلاد والعباد…
لقد عمل الإمام الصدر ومنذ اللحظة الأولى على إرساء دعائم مشروعه على ركيزة تتمثل في العمل على الاستفادة من كل العناصر الايجابية في لبنان بهدف توفير الشروط المؤدية إلى بناء شخصية سياسية مؤمنة و متوازنة لشيعة لبنان (على حد وصف الدكتور حسن الضيقة في أول وأهم تقويم لمسيرة الصدر)، شخصية واثقة سوية تكون قادرة على مواجهة التحديات، وتساهم في إنهاض حركة الناس (كما كان يحب الإمام أن يقول وهو يقصد المجتمع الأهلي والمدني على السواء) على قواعد التعاون والتضامن والاعتماد على الذات والمبادرة والتنظيم المؤسسي…
ولا شك أن الإمام وبفضل إطلاعه الواسع وعلاقاته الأوسع ودراساته العميقة في حوزات النجف و”قم” كما في جامعة طهران الحديثة، ومن خلال ممارسته العملية مع الناس وبين الناس ومن اجل الناس، وقراءته للتقارير الرسمية والدولية، وتشخيصه الخاص للواقع اللبناني والشيعي فيه تحديدا، قد اكتشف فرادة هذا الواقع من جهة، والامكانات الايجابية الضخمة التي يزخر بها من جهة أخرى، فعمل على البناء عليها وتطويرها…ولا ننسى انه بدأ مع “قم”ة توهج المشروع الشهابي ومرحلته التاريخية التي تميزت ببناء المؤسسات وبإفساح المجال أمام إدارة جديدة تحديثية وبتوسيع شبكة الخدمات العامة والتزام التنمية والعناية بالمناطق المحرومة وتوسيع التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية….وقد ارتكز الإمام الصدر على هذه الحالة التي أفرزت طبقة وسطى مدينية وريفية حديثة التكوين واسعة ومستقرة ومتعلمة ومتحفزة للعمل الاجتماعي والثقافي..والإمام عاصر صعود وسقوط الشهابية..
وهنا نقطة تستحق التوقف عندها نظرا لما كان لانهيار هذه الطبقة الوسطى الشيعية المتعلمة والناشطة من تأثير على تحولات حركة أمل وذلك منذ كارثة سقوط النبعة والتهجير القسري للشيعة من كل ضواحي بيروت الشمالية (1976)، مرورا بشتى المعارك في الحرب الأهلية وقد كان الشيعة وقودها الأساسي، ووصولا إلى الاعتداءات الصهيونية المتلاحقة والتي أكملت عملية تهجير وتفسيخ وإفقار وتشريد عشرات الآلاف من الشيعة (لم يدرس أحد ما حدث للحيوية المدنية-السياسية للشيعة بتأثير الحرب الأهلية وحروب العدوان الإسرائيلي في الجنوب، كما بتأثير المال الإفريقي والخليجي بعد طفرة النفط في السبعينات)… ولذا فان الإمام هدف في دعوته للارتكاز على القوى الايجابية إلى محاصرة الأخطاء والنواقص المحسوبة على الزعامات التقليدية السياسية والدينية ( طبعا ينسى البعض الإقطاع الديني الذي حارب الصدر حتى الرمق الأخير لأنه كان ينتمي إلى سياق الإصلاحية الدينية الدستورية الشيعية في النجف و”قم”) والى منع تفاقمها أو تكرارها أو انتشارها في المجتمع بناء على ما عرف عنه من هدوء طبع وسلام وصفاء فكر ومن تواضع ومعرفة (وهذه صفات لا نعرف لماذا يحاربها بعض رجال الدين من الشيعة اليوم) أعانته على تجسيد مقولته في البناء لا الهدم، والوصل لا القطع، وفي الاستفادة من كل التجارب والخبرات وذلك في منهج تجريبي واضح لا لبس فيه (أي انه لم يحمل أيديولوجية ثورية جاهزة للتطبيق على لبنان) إذ انه هو القائل: “إن في الإسلام بذورا للتطوير وجعل الأحكام منسجمة مع حاجات الإنسان في كل زمان ومكان.. وان المشكلة الكبرى في قضايا الشريعة الإسلامية أنها بقيت قرونا طويلة معزولة عن الحياة العامة ولذلك فهي تحتاج إلى تجارب قبل التنفيذ” ( مجلة المجاهد الجزائرية – في 12-8-1973)…
لقد وعى الإمام أن ما يطلبه لا يمكن الوصول إليه عبر إي نهج يتسم بضيق الأفق:فلا المراهنة على الدولة ومؤسساتها وما تتصف به من فساد واختلال ومن سوء استغلال للسلطة (أكلة الجبنة على حد وصف الرئيس شهاب وقد نجحوا في إجهاض تجربته، من بين عوامل أخرى ليس هنا مجال بحثها).. ولا العمل على تأسيس حزب سياسي معارض أو الانكفاء ضمن إطار طائفي منغلق، هو ما يلبي طموحات المحرومين..”ففي هذا الجو من الإهمال والحرمان والدونية التي تعيشها الطائفة الإسلامية الشيعية تنامت إرادة تبحث عن وطن حقيقي تتساوى فيه طوائفه ومناطقه”(من مؤتمر صحفي للإمام في 15-8-1966)…رأى الإمام أن حالة الاختلال والفساد حالة عامة لا تقتصر على رأس الهرم بل هي تخترق بنية الاجتماع اللبناني من أعلى “قم”ة السلطة وحتى قاعدة المجتمع الأهلي…ففي أعلى ال”قم”ة فساد الإدارة والرشاوى وتوازنات المصلحة والمحاصصة وتعيينات المحسوبيات والتزلم والانتهازية السياسية وإقطاع سياسي-مالي-وديني- متحكم… أما في القاعدة فان بنية المجتمع الأهلي تخترقها انشدادات فكرية وثقافية وسياسية مرتهنة إما لقوى دولية ظالمة وإما لحسابات إقليمية متضاربة وإما لمصالح قبلية وعشائرية وطائفية ومناطقية ولزبائنية ضيقة ومتناحرة (وهذا التوصيف أستعيره مرة أخرى من الدكتور حسن الضيقة).. لم يكن في ذهن الصدر صياغة مشروع فئوي مذهبي أو تقزيم مشروعه الوطني العربي الإسلامي الإنساني وتحويله إلى رهينة لمطالب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، أو رهينة لظرف سياسي أو لضرورة إقليمية أو لتحالف قوى محلية-إقليمية (على ما يفعل البعض اليوم للأسف)..لم يبحث الإمام عن حل سياسي سهل وسريع يمكنّه من دخول مسرح الصراع السياسي بسرعة لكن على حساب مشروع التغيير الشامل المتكامل… إنما عمل الإمام على بناء حركة تتسم بشمولية وتعددية الإيقاعات وتبتعد عن الأحادية قدر الإمكان..فهدفه كان التحريك الايجابي لكل العناصر الايجابية في بنية الاجتماع اللبناني من خلال تحريك ايجابي للمجتمع الأهلي المحروم وللطائفة الشيعية تحديدا..لم يكن مشروع حركة المحرومين مشروعا لتيار أو حزب أو طبقة أو مطلب بل كان مشروعا لتحريك ايجابي لكل العناصر الايجابية يسمح بدخول المحرومين من كل الطوائف والمناطق إلى مسرح التغيير.ولعل هذا البعد التغييري في حركة الإمام هو ما غاب فهمه عن اليسار التقليدي يومها أو لعلهم فهموه ولذلك خافوا الإمام وحاربوه….انطلق الإمام من حقيقة “أن للطائفة الشيعية امكانات وطاقات كثيرة وكبيرة لا يستفيد منها لبنان ولا أبناء الطائفة إلا بجزء يسير منها وذلك لعدم التنظيم”(مجلة الأسبوع العربي:19-5-1969).. ومن كون “التنظيم شرط أساسي لنجاح كل عمل، والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سيؤدي إلى تنسيق الطاقات الإسلامية الشيعية اللبنانية ومنعها من الهدر والاصطدام… ومن الطبيعي أن هذا السعي سوف يقابل بصورة حتمية بتعاون الطوائف الشقيقة والسلطات المسؤولة وسوف يعالج الحيف المزمن اللاحق بهم..وأؤكد أن هذا التنظيم لن يفرق إطلاقا بين المسلمين بل سيسهل مهمة التوحيد الكامل عن طريق الحوار والتفاهم…والمجلس سوف يسعى لتنسيق نشاطاته كلها مع باقي الطوائف اللبنانية الشقيقة وتعميق وحدة المسلمين وإحكام روابط الإخوة بين اللبنانيين وتوطيد الوحدة الوطنية” (صحيفة الرقيب: 2-6-1969)..لقد أراد الإمام إطلاق الطاقات الايجابية للنخب الشيعية الواعية وللجماهير المحرومة وذلك على قاعدة العدل والتشيع الأصيل وفي خدمة الإنسان والوطن وذلك من خلال إيجاد مناخات نفسية وفكرية وسياسية وتوحيدية تتجاوز شتى الانقسامات..كانت حركة المحرومين لتغيير الذهنية وتغيير الواقع، ” ومن اجل أن لا يبقى محروم واحد في لبنان أو منطقة محرومة”.. انطلق مشروع الإمام “من الإيمان الحقيقي بالله وبالإنسان وبحريته الكاملة وكرامته… لتشكيل حركة وطنية تتمسك بالسيادة الوطنية وبسلامة ارض الوطن وتحارب الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان” (من الميثاق التأسيسي لحركة المحرومين). وهذا ما جعل الأستاذ غسان تويني يكتب: “ثورة الشيعة وهي ثورة طائفية باسم سائر الطوائف ومن اجلها جميعا.. وهي تتجاوز القضايا السياسية التقليدية إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية… فقضية الحرمان والظلم، وقضية الأرض الحقيقية “(النهار 18-3-1974)…وفي البيان الذي صدر بتوقيع 190 مفكرا ومثقفا من جميع الطوائف: “إن هذه الحركة إذا سميناها افتراضيا حركة طائفية هي الحركة الطائفية الوحيدة في لبنان التي تحمل جوهرا تقدميا… إن أهمية الحركة التي يقودها الإمام الصدر أنها عرّفت قطاعا عريضا من قاعدتها بوعيها بامكاناتها وبقدراتها على التغيير”.(النهار 26-11-1974)… وتحت عنوان “حركة الإمام الصدر بين الشيعية واللبنانية” كتب المرحوم العلاّمة الأب يواكيم مبارك:”اعتقادي الشخصي أن شيعية الإمام وحركته لا تحتاجان إلى نكران ولا إلى تبرير..فعلاوة على أننا لا نشك بوطنية الإمام وشمول حركته، احسب هذه الشيعية ضمانة كبرى للأصالة وربطا من عمق التاريخ اللبناني بأعماق العالم العربي… فجدلية هذا التاريخ قائمة باستمرار، تتجاوز الطائفية بفضل الدعوة التي اتخذت لبنان معقلا للتجدد الذاتي وموئلا للتفاعل الحر ورباطا لكل فتح خير “.(النهار 14-12-1974)….
ويقول النائب السابق محمود عمّار أن “الإمام الصدر كان شديد الحرص على الكيان اللبناني .. ولم يكن الإمام يريد الوصول بحركته إلى المساهمة في تقويض الكيان والمجتمع اللبنانيين بل إلى تعزيز دور الشيعة في الحياة اللبنانية عبر النهوض بهم اجتماعياً وسياسياً”(في حديث سيرة مقتضبة مع فادي توفيق نشره ضمن كتابه”بلاد الله الضيقة:الضاحية أهلاً وحزباً”،دار الجديد،2005،ص.96-97)..
* أستاذ علم الاجتماع السياسي والإسلاميات – بيروت- لبنان
[هل الحزب والمقاومة بديل الوطن والأمة والدين؟ (1)-
>http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=6216&lang=ar]
هل الحزب والمقاومة بديل الوطن والأمة والدين؟ قراءة سوسيو- تاريخية في مسار “حزب الله” ومصيره (2)
هل الحزب والمقاومة بديل الوطن والأمة والدين؟ (3): الشيعة في ثورة 1958 وما بعدها