احتفل اللبنانييون بنهاية معارك نهر البارد مع جماعة فتح الإسلام في أيلول/ سبتمبر 2007 اعتقاداً منهم أنها مسألة انتهت وصفحة طويت، ولكن أنّى لهم وهنالك من يتربص بهم لفتح صفحات جديدة تمنع عنهم الراحة وتأخذ من عيونهم النوم. عودة المارد المختفي الذي عجل السوريون فرجه وظهوره مع بعض عناصره على ذمة التلفزيون السوري تعني بدء الجزء الثاني من مسلسلٍ رديء يراد منه مايراد، ونحن إذ نتكلم إنما نتكلم عن الظواهر والله أعلم بالسرائر.
أعاد الفيلم الذي عرضته السلطات السورية على التلفزيون للناس ذكريات فتح الإسلام وحربهم الضروس على ضفاف نهر البارد. ولعل أهم مايفهم من الفيلم المعروض صورةً وتصريحاً وكلاماً، بأن المارد العبسي ظهر في الشام مجدداً بعد قرابة عام من الغياب والاختفاء، أي أنه وباختصار منها جاء إلى لبنان وإليها رجع، وهو يعمل على إعادة صلته بالقاعدة مع سعيه لتكون سورية هدفاً لجماعته تخريباً وزعزعة وإرهاباً، وتركيزهم للقيام بعملية تكون بمثابة ضربة تربك النظام وتظهر قوة التنظيم عبر استهداف المراكز الأمنية والدبلوماسيين الأجانب، وأن عناصر سعودية من ضمن الجماعة نفسها وتيار المستقبل والتيار السلفي في طرابلس يدعمون التنظيم مالياً. أما الأهم فيما يلفت النظر في دراما الفيلم حقيقةً فهي الإشارة إلى الانتقال السلس والمريح للسلطة من القائد المختفي إلى السيد أبو محمد عوض الملتحي.
قال المشككون في الفيلم فبركةً ودبلجةً وقصاً ولزقاً وكذباً وبهتاناً وافتراءً أن غاية الفيلم إظهار وتسويق أن سورية مستهدفة بإرهاب جماعة فتح الإسلام كما لبنان لأنه يحاربها قتلاً واعتقالاً وشهوده حاضرون وهم من ظهر في الفيلم، وكلامهم عن تخطيط يظهر قوتهم بعملية ثأرية تكون بمثابة ضربة للنظام السوري تربكه وهو الذي انتهى بالسيارة المتفجرة في منطقة القزاز. ومن ثم لايعقل أن يكون للنظام السوري علاقة بهكذا ناس وعالم ممن يتعاطون الإرهاب أولاً وأخيراً لأنه يسئ لسمعته وصورته.
وأضاف المشككون من الخصوم والأعداء تأكيداً على الفبركة في التسجيل التلفزيوني إلى أن أقوال ممثلي الفيلم أكدت على استهداف المراكز الأمنية والدبلوماسيين تحديداً وضرب أهداف اقتصادية لتأمين التمويل، ولكن ماكان في الرواية الرسمية يوم الانفجار أن المجرمين استهدفوا المدنيين والأبرياء من الناس، فمن نصدّق أقوال الناس الذين ظهروا على الشاشة أم التصريحات الرسمية.
كما أضاف المشككون والمرتابون بأن اعترافات المجرمين أشارت إلى ثلاثة عقدٍ من مالٍ ومتفجرات وسيارة ينبغي حلها لتمام عملية التفجير، فالمال قالوا كيف دبروه، والسيارة عرفنا كيف سرقوها، والمتفجرات أشاروا صراحة إلى تدبير ثلاثة عينات كان مجموعها 261 كغ. فإذا علمنا أنهم استخدموا 200 كغ منها في تفجير السيارة العراقية المسروقة حسب كلام السلطة عن السيارة المتفجرة فالمتبقي يكون 61 كغ، ومن ثم فمن أين لهم كل هذه الكميات الهائلة التي ظهرت في الفيلم وكأنها خرجت للتو من مخازنها والتي تكاد تشكل مع غيرها مما عرض من الأسلحة والعتاد والقنابل والمتفجرات حمولة سيارة إضافة إلى صور لأعداد كبيرة جداً من جوازات وبطاقات هوية ومستندات أخرى سعودية وغير سعودية إلا إذا كانت قد وضعت من قبل المخرج لتمام الديكور والمواءمة بين الصوت والصورة مع الحديث عن الإرهاب.
بالطبع فإن الأجهزة الأمنية والإعلامية الرسمية فيما عملت وأخرجت وعرضت كان هدفها أن تقنع المشاهدين أن ماقدمته هو الصدق، ولاصدق غيره رضي من رضي وغضب من غضب، لأن الكذب عاقبته وخيمة، والصدق يهدي إلى الجنة، وليخسأ المشككون والمكذبون، ولينطحوا راسهم في الحيط، وليذهبوا إلى الجحيم.
ولكن في معمعمة حديث أصحاب الفيلم عن فيلمهم ويقظتهم وتشكيك المرتابين وتكذيبهم كان مالم يكن في الحسبان، إذ نقلت رويترز مع بعض الصحف بياناً وصلها بالفاكس من جماعة فتح الإسـلام بتاريخ الاثنين 10 تشرين الثاني/أكتوبر تنفي فيه جملة وتفصيلاً علاقتها بالانفجار الذي كان أو بالأشخاص الذين ظهرت صورتهم على شاشات التلفاز السوري أو بالشهادات التي أدلوا بها، أو بالدول والجهات التي ذكروها مشددةً على أن كل ذلك شائعات يراد منها ذر الرماد في العيون وتشويه صورة مجاهدي الحركة الذين رفعوا راية الاسلام. مضيفةً: “لقد دأب النظام النصيري في الآونة الاخيرة على تحميل فتح الاسلام المسؤولية عن كل ما يتعرض له من ضربات وهجمات وتفجيرات هزت كيانه وزعزعت قواعده المهترئة. كما اتهم بيانهم المخابرات السورية بمحاولة تحويلهم إلى رأس حربة لإغلاق حسابات النظام مع بعض الجهات والدول عن طريق اتهام حركتنا زورا وبهتانا بالعلاقة معه. وهو كلام لو صح يعيدنا إلى المربع الأول ليؤكد ماقاله المرتابون والمكذبون بأن كل ماظهر فبركة، ومافيلم أبوعدس عنّا ببعيد، ولنسأل: لماذا كل هذه الأفلمة والفبركة..!!؟
إجابة الخصوم المتهمين ترتكز أن النظام يريد الظهور أمام الخارج بمظهر المستهدف بالإرهاب وضحية له، وليس صانعاً أو ممرّراً له كما يزعم المبطلون والمعارضون، ويريد أن يقول لهم على رؤوس الأشهاد: إني أرى مالا ترون، إني بريء من جماعة فتح الإسلام صناعةً ودعماً وتخطيطاً وتحريكاً، والأهم أني قادر ومقتدر على ملاحقة الإرهاب والإرهابيين وأنا لوحيد الذي يمكنه ملاحقة الإرهابيين واعتقالهم في وقت قياسي. أما إلى الداخل السوري فإن هدفه إفهام عموم الجماهير من الشبيحة والنهابين والفقراء المعترين والمشحرين أن سورية بدونه تعني الفوضى والإرهاب والقتل والتفجير والرعب ولسوف يزدادون فقراً وتعتيراً وشحّاراً ولاسيما المسيحين منهم فيما ورد من إشارات استهدافهم في فيلم الاعترافات.
بعض المراقبين والمحللين يروّجون إلى أنه كلما اقترب موعد المحكمة الدولية ورغم اعتقاد السوريين أنهم غير معنيين بها فإنهم يتأزّمون وتتراكض ثعالبهم. ويستشهدون على ذلك بحشود الوحدات العسكرية السورية عدداً وعتاداً على الحدود اللبنانية بشكل غير مسبوق، وعرض فيلم الاعترافات المتلفزة مع مارافقه من تحليلات وتنظيرات يراد لها إقناع الناس وإفهاهم أن خطر الإرهاب على سورية قادم من لبنان ومن الشمال تحديداً. ومن ثمّ فهم يؤكدون أن الأمور مرشحة للزيادة تعقيداً وتأزماً في المنطقة رغم كل مايقال عن تعاون وتصالح وغيره، كما يرون من قبيل الإغلاق على الشر المستطير وصك الأبواب التي تأتي منها رياح الفتنة أن يطلب إلى لجنة التحقيق الدولية تسلّم ملف الاعترافات المذاعة والمتلفزة كما هي مع ناسها سيما أنها مرتبطة حسبما أعلن عنها بتنظيم متهم بالتورط في اغتيال شخصيات سياسية لبنانية بارزة وجرائم أخرى مما يرتبط بشكل أو بآخر بمهمة اللجنة الدولية لمعرفة الحقيقة وكشف المجرمين والمتورطين. ولكن اعتراض من يقول بأن الأجهزة الرسمية السورية بطبيعتها وتركيبتها ورغم أن جريمة التفجير فيما أذاعت كانت تستهدف مدنيين أبرياء فإنها لم تسمح للصحافة ولا الإعلام بالاقتراب والتغطية رغم المصلحة المتحققة، فكيف بتسليم الملف إلى لجنة تحقيق دولية يشكّوك فيها ويمكن لها أن تكشف المستور، لذا فإن اقتراح بعض القادة اللبنانيين بالطلب إلى الجامعة العربية تشكيل لجنة تحقيق في الفيلم وماكان فيه للفصل في الاتهامات الأمنية السورية لبعض القوى اللبنانية عن جماعة فتح الإسلام والجرائم التي كانت يبدو معقولاً ومنطقياً لقطع الطريق على المغرضين.
النظام السوري في فيلمه يتهم فتح الإسلام التي نفت كلامه جملة وتفصيلاً، ويتهم فريقاً من اللبنانيين الذين ردوا على الفيلم بأنه مجرد تلفيقات اعتادوا عليها تحتقر فهم الآخر وذكاءه. فهل تتدخل الجامعة العربية ليظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتظفئ ناراً للفتنة يسعّر لها من يسعّر أم يترك الأمر إلى لجنة التحقيق الدولية ويومئذ يهلك المجرمون.
cbc@hotmailme.com
• كاتب سوري