الفشر لغة هو المبالغة فى الكذب، والفشار بالتالى هو المبالغ فى الفشر. والفشر يؤدى عادة إلى نتائج وخيمة قد لا تشمل الفشار وحده، وإنما تتعدى شخصه إلى أهله وذويه أو إلى قبيلته، ومواطنيه. وفى التاريخ العربى واقعة مهمة، إن لم تكن أهم واقعة لبيان فشر بالغ، ومدى ما أثر فى العرب جميعاً، حتى الوقت الحالي، وربما إلى وقت فى المستقبل غير قريب.
ففى عصر ما قبل الإسلام، المسمى بالعصر الجاهلى، عاش الشاعر عمرو بن كلثوم التغلبى، أى إنه كان من قبيلة تغلب، (توفى حوالى 584م )، وكانت معيشته بوادي الجزيرة والعراق والشام ونجد، وقد ساد قومه صغيرا ونشأ خلاف بينه وبين عمرو بن هند ملك الحيرة (من قبيلة معد)، فقال عمرو بن كلثوم فى ذلك مفاخرا، قصدة طويلة، هى إحدى المعلقات السبع الشهيرة لدى العرب، فرددتها من ورائه قبيلته تغلب، وجعلتها ملحمتها، وأخذ شعراؤها يضيفون إليها حتى بلغت قريبا من ألف بيت. وصل منها فى عصر التدوين جزء متداول بين العرب أجمعين، وصار من جزالة اللفظ وسهولة البيان وسلاسة الإيقاع وقوة الافتخار، كأنما هو النشيد القومى العربى (كما يقول بحق، الشاعر المصرى فاروق شوشة).
فى هذا النشيد القومى العربى، الذى قلّ ألا يعرفه ويردده مثقف عربي:
ورثنا المجد قد علمت معدّ (وبتصرف، قد علم الأعادى)
نطاعن دونه حتى رُبينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
كأنا والسيوف مسلسلات
ولدنا الناس طرا أجمعينا
فنحن المانعون لما أردنا
ونحن النازلون بحيث شينا
ونحن العاصمون إذا أطلعنا
ونحن العارمون إذا عصينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الذل فينا
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنا صبى
تخر له الجبابر ساجدينا
ولأن المثل العربى الشهير يقول “إن من البيان لسحرا”، فقد كان لهذه الملحمة، على قبيلة تغلب، وقع السحر، فاستكانوا إليها وإستناموا عليها، وراحوا فى سبات عميق، وضاعوا فى وهم سحيق، لم يدركوا به معنى الحياة، ولم ينتبهوا منه إلى ضرورة الحركة، ولم يستطيعوا أبدا إتيان أى فعل، فضعفوا وخاروا، حتى قال فيهم أعداؤهم:
ألهى بنى تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم
يا للرجال لفخر غير مسئوم
والمسئوم لغة، هو الشىء الذى يُسام أو يُمَلّ منه، فكأن المقصود أن هؤلاء الذين يتفاخرون بما ورد فى قصيدة عمر بن كلثوم لم يسأموا ترديدها ولم يملوا تكرارها، فألهاهم ذلك عن المكارم قولا أو فعلاً، حسا أو عملا.
ولإجراء المقابلة والمقارنة والمقاربة، فإن النشيد الوطنى الأمريكى يبدأ بعبارة “بلادي، إنها بلادي”، وقد كتبت كلماته عام 1822، وتبين مؤخرا أن لحنه هو ذات لحن النشيد البريطانى “حفظ الله الملك”. وهذا النشيد البريطانى غير محقق الأصل، سواء فى كلماته أو فى موسيقاه؛ وغالب الأمر، أن اللحن مستمد من عناصر الأغنية الشعبية البسيطة، وقد ظهر هذا النشيد بكلماته ولحنه عام 1745.
أما العمود الفقرى فهو محور الجسد، ومحور كل معانى أو مفاهيم يمسكها ويقبض عليها، فتلتئم به وتلتف حوله وتدور عليه.
وما دامت قصيدة عمرو بن كلثوم تلك، قد صارت بمثابة النشيد القومى العربى والعمود الفقرى للثقافة العربية، فإنه لا بد أن المناخ الذى ظهرت فيه هذه القصيدة، كان يتضمن العوامل التى تدفع إلى مبانيها، والعناصر التى تؤدى إلى معانيها، والمشاعر التى جاست فى توقيعاتها، والحماسة التى جاست فى تفعيلاتها، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر، فإنه لا بد أن المناخ الذى دام فيه وضع ووقع هذه القصيدة حتى اليوم، ما زال يتضمن كل العوامل والعناصر والمشاعر والحماسة التى أدت إلى وضعها والتى تؤدي إلى بقائها ودوامها، وإلى استمرار جدتها وبقاء فاعليتها وتوالى شدتها.
ولأن الحديث والكلام والرغي هو غاية فى ذاته ونهاية فى حاله، فإنه ينتهي بانتهاء الحديث وفراغ الكلام وخلاص الرغي، دون أن يؤدي إلى أي أمر آخر، أو يكون دافعا لأى عمل أو فعل. فمجرد الحديث، والكلام، والرغي، يستفرغ الطاقة ويستنفد الجهد، ويصل بالمشاركين فيه إلى حالة من الرضا عن النفس والهدوء فى الذات والسكون إلى الواقع، خاصة إن تضمن إخبارات وإيقاعات فيها تفاخر بالشخص أو بالقبيلة، وفيها تهاتر عن الخصم أو العدو؛ فيها ثناء على الجماعة وأصولها، أو فيها هجاء للخصوم وأسلافهم.
والذى يقرأ تاريخ العرب قبل الإسلام يجد أنه فراغ طويل وخواء مستمر، لا يقطعه إلا قصيدة لشاعر، أو غزوة للسلب والنهب، من الأعادى أو من المحايدين أو من الأقارب، وفى هذا المعنى ما يقوله الشاعر:
وقلن جاهد يا بثين بغزوة
فقلت وهل لى غيركن جهاد؟
أى إن النسوة حرضن بثين على الغزو للسلب والنهب، بدلا من فراغه من العمل وقعوده عن السعي، فرد عليهن وهو يقول إن الجهاد (وكان فى الجاهلية هو الغزو للسلب والنهب)، هو جهاده مع النساء، أى إنه غزو اللهو ووقائع الغرام. وفى العصر الحديث فإن الغزو أخذ شكل الريع، والسمسرة والعمولة والاختلاس، أى الغزو على مال بغير عمل، أما مجالس اللهو والنساء فقد صارت هي الملاهي العامة وعلب الليل Boit du nuit وحفلات المجون، وما أشبه الليلة بالبارحة!
فى القرآن الكريم بيان لظاهرة القول بغير فعل والحديث بغير عمل والرغي دون سعي، بدأ ذلك عند الشعراء، وأمثالهم وأشباههم ففيه والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون.. سورة الشعراء 26 : 224.
ثم تعرض للناس عموما يا إيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون سورة الصف 61 : 2 – 3. يعنى ذلك، أن التنزيل قرر أن الشعراء وكل العرب شعراء على نحو ما، فى كل واد يهيمون، أى إنهم فى كل مكان متحيرون مضطربون.
وكذلك فإن التنزيل استنكر على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون ؛ مما يفيد أنه وقت التنزيل، كان ثمة ظاهرة واضحة، حتى بين المؤمنين، تقيم فاصلا بين القول والفعل، وتضع حائلا بين الكلام والأعمال، ثم تدعي بعد ذلك من قبيل الفشر، أنها فعلت ما لم تفعل.
وكان الحري بالعرب بعد تنزيل القرآن أن يلتفتوا إلى هذا العيب الجسيم، الذى يجعلهم متحيرين مضطربين، لا يهدأون ولا يقرون، ولا يعملون ولا يُحْدثون، فيعدلوا عن هذا الحال الذى عابه القرآن، ويتحولوا إلى الثبات والقرار والهدوء، الذى يقول ما يفعل ويفعل ما يقول، فلا يدعىيولا يزعم ولا يفشر. غير أن ذلك لم يحدث، فتضخم العيب واستدعى عيبا آخر هو عدم رؤية العيب، بل قلب الأمور، ليعد العيب ميزة، فصار العيب عيب مركّبا، وهو عيب من يدعى أن العيب ميزة، ولا يعترف بأنه حتى عيبا.
منع عمر بن الخطاب الخليفة الثانى القرشيين من مغادرة المدينة ومكة حتى لا يحوزوا إقطاعات ويتحولوا إلى إقطاعيين. وفى مكة والمدينة، تحول القرشيون الذين حطت عليهم ثروات طائلة إلى حياة النعيم والمجون، التى تتبدد بين الخمر والنساء واللهو والغناء، أما الذين أحدثوا الحركة وقاموا بالغزوات فقد كانوا من الأعراب، من شتى القبائل التي كانت تسيح فى الفيافي خارج مكة والمدينة، ودفعهم إلى الغزوات، وهى فعل وحركة، هذى الدفعة الشديدة التى أحدثها فيهم الإيمان بالمعتقد الجديد، وربما كان دافعهم أو دافع البعض منهم رغبة السلب والنهب، وهو أمر ليس معيبا فى الثقافة العربية، بل إن بعض البلاد العربية تطلق على مساحات من الأراضى الشاسعة تعبير “نهب الحاكم” وهى تقصد أنها ملكه، فتعبير السلب والنهب قد يفيد عند البعض معنى الاستيلاء والتملك.
والذى قام بالحركة التى أسقطت الخلافة الأموية وأقامت الخلافة العباسية الأولى هم من الموالي الفرس بقيادة أبى مسلم الخراسانى. وكانوا مع بعض العرب هم الذين تولوا الغزو بعد ذلك، ومعهم مرتزقة من التتار الذين سُمّوا بالترك، نسبة إلى اللغة التركية التى يتكلمونها (كما غيرت ألمانيا اسمها من بروسيا وبافاريا وغيرهما إلى ألمانيا، نسبة إلى اللغة التى يتكلمونها، وهى اللغة الألمانية، والتى هى لغة شعوب أخرى ليست ألمانية، وهى الشعب النمسوى وجانب كبير من الشعب السويسرى، وفى المقاطعة التى تعد مدينة زيورخ عاصمة لها). ولما استقوى التتار الترك أسسو خلافة هى فى حقيقتها الخلافة العباسية الثانية. كان التتار البرابرة فى منغوليا وموضع كوريا الشمالية حالا، يغيرون على أراضى الصين الخصبة الثرية. وعندما وحد الصين شن هوانجتى (246 – 209 ق.م)، ومنه أخذت الصين اسمها، أقام سورا على طول الحافة الجنوبية لسهل منغوليا، لمنع التتار من غزو الصين، وقد استطاع التتار بحيلة غزو الصين بقيادة جنكيزخان المغولى (1167 – 1227) وأقام ملكا فيها، اتسع جدا فى عهد حفيده قبلاى خان (1285 – 1294). لكن الصينيين استطاعوا بعد ذلك تحرير وطنهم من حكم التتار، وبدء حكم أسرة المينج (1368 – 1644). وخلال هذه الأسرة، وحتى لا يتكرر غزو التتار للصين واستيلاؤهم على سدة الحكم، أقاموا سور الصين العظيم، المستمر حتى العصر الحالى، وكان من شأن إقامة هذا السور أثر بعيد المدى على آسيا وأوربا، وعلى العرب. ذلك بأن البدو التتار المحاربين ببأس شديد وعنف بالغ، لما وجدوا أن أراضى الصين قد أوصدت فى وجوههم، ولوا وجوههم شطر الغرب بدلا من الجنوب، وتوالت غزواتهم حتى استولوا على شبة جزيرة آسيا، وأقاموا فيها السلطنة العثمانية (نسبة إلى عثمان بن أرطغول، 1281)، حتى يقطعوا بالاسم صلتها بالتتار البرابرة الذين كانوا مكروهين من العالم أجمع، ومن العرب المسلمين. وظلت هذه السلطة تتارية الأصل، انكشارية الجنود، توالى الحروب على البلاد العربية، ومنها مصر، حتى احتلتها جميعا، ثم على أوروبا إلى أن تضعضعت وتحللت. وكان مؤسس الامبراطورية المغولية الشهيرة جنكيزخان (1167 – 1227)، والمغول تصحيف للفظ منغول من منغوليا، وهم تتار هو الجد الأكبر لتيمور لنك أو تيمور الأعرج (1336 – 1405) الذى اكتسح سوريا والعراق ودمر بغداد عام 795هـ 1393م. ولأن العثمانيين نسبوا أنفسهم إلى سلطانهم عثمان، وسموا فبيلتهم باسم لغتهم التركية، التى لم تزل لغة خمس جمهوريات إسلامية جنوب روسيا وشمال أفغانستان، لأن العثمانيين أجادوا إخفاء أصولهم التتارية، فقد قبلهم العالم الإسلامى، واستظل بظلهم العالم العربى طوال خمسة قرون، مع أنهم كانوا قد قاوموهم بشدة أيام تيمور لنك، وفيهم صدرت فتاوى ابن تيمية الشهيرة عن جهاد الحكام الكفرة، وعن حرق مدينة مردين بجنوب تركيا، بما فيها من أهالى أبرياء، وذلك لتبرير حرق المغول، وقال عن الأبرياء المقتولين ظلما إنهم يُبعثون على نواياهم يوم القيامة (أي إن آثار المغول مُحتقرة فى الفكر الإسلامى حتى اليوم).
بهذا، يدل الواقع التاريخى على أن الذى تولى شأن الحركة هم الفرس الموالي فى النصف الأول من العصر العباسى، ثم تلاهم التتار، منذ هذا الوقت، وحتى عام 1924، حين ألغيت الخلافة الإسلامية. أما العرب فقد ركنوا إلى الكلام واكتفوا بتملك ناصية الحديث بدلا من جوهر الحركة. غير أن الحقائق غـُمت على العرب والمسلمين لأن الفرس والتتار ومنهم الترك اتخذوا لأنفسهم أسماء عربية، خفيت بها هُوياتهم، وغمضت تحتها حقيقتهم. وكما يظهر ذلك فى المشرق يظهر فى المغرب. فالذى غزا الأندلس ابتداء، وهى جنوب أسبانيا، هو القائد البربرى طارق بن زياد (حوالى 710) الذى ينسبه بعض المؤرخين إلى قبيلة نغزة من (البربر)، وقد كان مولى لموسى بن نصير والى الوليد بن عبد الملك بن مروان على أفريقية، أى تونس حالا، وكانت قوة طارق من الجند البربر، بينهم عدد من العرب.
ولما سقطت الخلافة الأموية، هرب منها عبد الرحمن ابن معاوية ابن هشام ابن عبد الملك ابن مروان (المتوفى عام 778) والملقب “صقر قريش”. وحينما اضطهده الوالى العباسى على مصر وأفريقيا هرب إلى المغرب فرحبت به قبائل من البربر، وساعدته فى دخول الأندلس عام 755، وتوجه إلى اشبيلية ثم قرطبة حيث نودى بها أميرا.
ثم كان عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر (891 – 961) هو الذى نصب نفسه خليفة (929 – 961) وتحللت الخلافة بعد ذلك فيما يُسمى بملوك الطوائف (1023 – 1092)، حيث وثب الأمراء والوزراء وزعماء العرب وأعيان البربر، وقام كل واحد منهم بناحية أو بجماعة فى الأندلس. واشتعل هؤلاء الملوك بحروب بعضهم البعض، والتجأ بعضهم إلى ملوك الأسبان مستنصرين بهم على إخوانهم. ولما صار الفونسو السادس الأسبانى ملك قشتالة وليون مصدر تهديد كبير، آثر المعتمد بن عباد (1069 – 1091) أن يستعين بيوسف بن تاشفين زعيم المرابطين فى المغرب، وهم من البربر.
غير أن الفتن والخلافات ظلت محتدمة بين العائلات المسلمة، حتى سقطت غرناطة نفسها عام 1492.
عندما وصل ابن تاشفين إلى المعتمد بن عباد قبض عليه وألقاه فى السجن حتى مات. وقبل ذلك، وعندما كان الأسبان يهددونه، قال قصيدة مهمة بصدد الدراسة، وفيما يدور حالا بشأن النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، منها مما يناسب المجال، وبتصرف:
جرحي دام وما بنا أمل
والغرب من حولنا هو الأمل
نرعى خنازيرهم وليس لنا
من رعيها ناقة ولا جمل
قصورنا تيجانها صقالبة
وشعبنا فى عيننا هَمَل
وكلنا”قادر” و”معتمد”
أسودنا لا يهابها الحمل
تـْبرأ منا ربوع أندلس
جزْيتها للغرباء تـُحمل
ونحن ما نحن؟ غير سائمة
عنائها بالخلاف مُشتمَل
(القدس) هذه المأساة أحملها
وفى غد الملهاة تكتمل
فلسطين يا ضياع فلسطيننا
حسبك منا الكلام لا العمل
ولمناسبة المقام، فقد بدلنا ألفاظ الغرب بالروم، والقدس بأغمات، وفلسطين بالأندلس.
وما يقصد إليه الأمير الشاعر (أ) أن لا أمل له ولا للمسلمين إلا فى الروم التى كانت عاصمة أوروبا، والرومي هو الأوروبي، نسبة إلى روما التى كانت عاصمة أوروبا والعالم القديم مدة سبعة قرون، وما زالت عاصمة المذهب الكاثوليكى؛ (ب) إنه ومسلمو زمانه يرعون خنازير الروم، كناية عن رعاية أدنى مصالحهم، مع أنه ليس له ولا المسلمين فى هذه المصالح ناقة ولا جمل؛ (ج) وأن الصقالبة، وهم الشعوب السلافية فى مناطق الصرب وروسيا، هم تيجان القصور أى رؤوس الحكم، أما الشعوب فهى فى نظر الحكام شىء مهمل وكَمّ بلا قيمة؛ (د) وأن الأسماء ضخمة مثل القادر والظافر والقاهر والناصر، لكنها أسماء بلا معنى وأوصاف بغير قيمة، ومن ثم فهى كأسد من ورق لا يخاف منها حمل، أى خروف؛ (هـ) وأن ربوع الأندلس، وربوع غيرها، تبرأ منهم ومن أمثالهم، لأن ضرائبها تـُحمل للغرباء، ولا تنفق على هذه الربوع وعلى شعوبها؛ (و) وأنه وشعبه كالسوائم أى المواشى، بسبب الخلافات التى تنشب بينهم؛ (ز) وأنه يحمل بين جنباته مأساته أغمات، وهى القدس حالا، لكن المأساة سوف تكتمل فى الغد؛ (ح) وقد ضاعت الأندلس (فلسطين المعاصرة) وحسبها من المسلمين الكلام لا العمل.
هكذا، اقتضى الأمر دورة كبيرة وتجربة مريرة، حتى تصدر عن أمير شاعر مرثية العرب، لتعارض بالواقع والحقيقة النشيد القومى للعرب، ومع ذلك فقد استمر وقع النشيد ووضع الكلام، قرابة ألف عام، وحتى حدثت للعرب نكبة فلسطين، وأظهرتهم فى نفس الظروف وذات الأوضاع التى تضمنتها المرثية الموجعة. ذلك لأن النشيد القومى كان قد صار عماد الثقافة العربية، تدور عليه وتلتحف به تلتف حوله، فتحفرت منه وتخثرت فيه وتجمدت عليه، خاصة بما فيه من سحر يبعدها عن واقع الزمان وظاهر المكان، فكأنما هو خدر لا يرغب المخدور أن يفيق منه. (أ) ففى هذا النشيد أن قوم الشاعر، وهم العرب جميعا فى الوقت المعاصر، هم الذين ولدوا الناس كلهم، فهم الآباء للشعوب، وهم الأصول للمعتقدات وهم المصادر للأفكار، ولهم بهذه الأولوية والأصالة حق الصدارة على الناس جميعا، ولو دون عمل؛ (ب) وأنهم ورثوا المجد كابرا عن كابر، فلا يطاولهم فيه شعب، لأن كل من عداهم مُحدث بعدهم، بلا مجد أصيل ولا عز تليد؛ (ج) وأنهم يشربون الماء صفوا، كناية عن أخذ زبد كل شىء، وميزة كل وضع، فى حين يكون لغيرهم العكر، والباقى والفضول، أى ما يفضل منهم ويبقى بعد أن يستوفوا رغباتهم؛ (د) وأن لهم، بالحق الأزلى، كل ما فى الدنيا، وكل من يسير فيها أو يحيا عليها (هـ) وأنهم يملآون البر حتى يضيق من كثرتهم، كما أنهم يملأون البحر سفنا وبواخر وأساطيل؛ (و) وأن جبابر العالم لابد أن تخر ساجدة لأى صبى منهم يبلغ الفطام !
هذا النشيد القومى بما فيه ومعانيه، استولى على الثقافة العربية واستحوذ على ذات كل عربى، سواء وضح بمعانيه أم لم يتضح، إذ هى تقر فى التراث وتنتقل من جيل إلى جيل، وكان من نتيجة ذلك أن استكان العرب لمعانى النشيد القومى، واستنام جمعهم إلى هذه المعانى الكاذبة، حتى وقع لهم ما وقع لبنى تغلب، فيما قاله الشاعر، إنه قد ألهاهم عن كل مكرمة قصيدة قالها شاعرهم، فظلوا يفاخرون بها حتى ضاعوا وبادوا، ووصل الحال الذى عبرّت عنه القصيدة إلى المرثية التى قيلت وقت ضياع الأندلس، والتى تصدق وقت ضياع فلسطين.
كان للنشيد القومى العربى وقع السحر، وأدى السحر إلى الخدْر، وعمل الخدر على الفشر، وأدى الفشر إلى العُسر، فهل بعد ذلك من نصر؟!
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
الجرح يدمى .. ما اروع ما كتبت يا استاذ سعيد .. وليتك اضفت قصيدة رثاء الممالك الزائلة لابي البقاء .. واريد ان الفت النظر الى نقطة لم اجد احدا كتب فيها الى الان .. وهي اننا نمضي بغير ارادتنا في اتجاه عديم الرجوع ..يبعدنا عن كل ما هو قومي الى ما هو اقليمي .. ويؤسس لصراعات مستقبلية طويلة الامد ..لتكون فيها اسرائيل ( عمدة ) المنطقة ..وهذا الاتجاه لا يتعلق بالحكومات بقدر ما يتعلق بالشعوب …واشرح ذلك .. ان اي مشروع قومي يحتاج الى عمل مشترك بين الحكومات العربية وشعوبها بنفس الوقت ..وعندما قررت المانيا توحيد شطريها بعد سقوط الاتحاد… قراءة المزيد ..