**
ولد ليوناردو دافنشي عام 1452، العام السابق على سقوط بيزنطة في أيدي العثمانيين. فكأنه بمولده هذا كان ديكاً يؤذن ببزوغ عصر جديد.. عصر سوف تتخلص فيه أوروبا من ثلوج الجمود السياسي، وقمامة التعصب الديني، عصر سوف تـُخترع فيه المطبعة (جوتنبرج 1447) ويُكتشف فيه عالم كامل جديد (قارة أمريكا 1492) وطرق ملاحية كبرى (طريق رأس الرجاء الصالح 1497) ويُؤسس فيه كوبرنيكس لنظام فلكي أدق 1541، ويتم فيه اختراع التليسكوب 1590، بينما يحل فيه فرنسيس بيكون (1561-1626) الاستقراء محل القياس، عاصفاً بالمرتكزات المعرفية القديمة: أوهام القبيلة، أوهام الكهف، أوهام السوق، أوهام المسرح.
في قلب عصر النهضة هذا نشأ ليوناردو وتربى. فحين بلغ عامه الثامن عشر التحق بورشة الفنان “فيركيو” ليدرس على يديه فن التصوير، غير أن موهبة الفتى وولعه الشديد بدراسة العلوم الفيزيائية والبيولوجية، سرعان ما قاداه إلى التفوق على أستاذه. ولقد بدا هذا واضحاً في رسمهما المشترك للوحة تعميد المسيح 1478 مما دفع بالأستاذ فيركيو إلى اعتزال الرسم حذرا ً من انكشا ف ضعفه(النسبىّ طبعاً) قياسا إلى تلميذه!
كانت حياة دافنشي تمثيلاًRepresentation رائعاً لعصر النهضة الذي تمثلت خصائصه في التأكيد على قيمة الفرد الإنساني، فلسفياً وسياسياً وأدبياً وفنياً، جنباً إلى جنب الاهتمام البالغ بالعلم وتطبيقاته العملية. ومن هنا سنفهم سر اهتمام دافنشي بالهندسة الميكانيكية والموسيقى والتشريح، وعياً منه متنامياً بجمال ونظام الكون، وروعة الجسد الإنساني، وضرورة تحرر ذلك الجسد، كي يتمكن من السيطرة على الطبيعة.
وكواحد متميز من طليعة مثقفي عصره، فقد ذاع صيته حتى بلغ أسماع دوق ميلانو، فوافق على تعيينه عام 1482 مشرفاً على الأعمال الهندسية الحربية لتحديث حصون المدينة، إضافة إلى عمله كمصور ونحات.
***
يوم بلغ دافنشي عامه الرابع والثلاثين رأى ظلاً ضخماً من ظلال عصر النبوات القديمة يغطي سماء إيطاليا قادماً من لمبارديا، كان اسم هذا الظل: سافونا رولا، فشغل الناس عن الحاضر والمستقبل بحديث عاطفي حار عن المسيح الدجال، وعن الانتقام الرباني الذي سيحل للتو بالطغاة والزناة، والنسوة الفاجرات عاريات الرأس كاشفات الأذرع والسيقان.. فهلموا هلموا إلى التوبة والتطهر، واستعدوا لملاقاة اليوم العظيم، يوم الدينونة قبل فوات الأوان.
في هذه الفترة رسم ليوناردو لوحة “عذراء الصخور” التي جمعت بين الأشخاص والجمادات في متصل بصري شاعري تغلفه “الظلال” انطلاقاً من مذهب الأنيمية Animism حيث تـُرى المادة باعتبارها كائناً حياً لا تفنى ولا تستحدث من العدم.
لقد بات واضحاً أمام الفنان الفيلسوف أن السؤال الكبير؛ إنما يقع في منطقة الحوار بين الظل (الماضي) والضوء (المستقبل) بين قيم الإقطاع الغارب، وبين البرجوازية الوليدة، بين العفة والزهد المفروضين باسم المقدس، وبين شهوة الحياة المتأججة المبتهجة.
وبينما راح البرجوازيون يعدون العدة لتثوير وسائل الإنتاج، بالعمل على تراكم رأس المال التجاري، وبالدفع في اتجاه المانيفاكتورة( الانتقال من الإنتاج الحرفي إلى عالم التصنيع ) كان سافونا رولا يندد بالعلمانية المادية، مستخدماً في نشر مواعظه الاختراع المادي العلماني: المطبعة! وبفضل شخصيته الكاريزمية الساحرة، استطاع أن يقنع العامة بانتخابه حاكماً لمدينة فلورنسا عام 1494. وعلى الفور شكل من أعوانه الرهبان “شرطة أخلاقية” راحت تقتاد الناس إلى الكنائس جبراً، وتطارد بالعُصِيّ النسوة المتبرجات، وتمنع احتفالات الرقص والموسيقى والغناء، وتحرّم المسرح تحريماً، فكان أن عمت الكآبة وانحسـرت الأماني، وحل التدهور الاقتصادي محل إمكانات التنمية، وأما البشر فقد ظلوا بشراً، ومدَّعو التقوى تكشفوا عن فاسدين، ولم يُجد فتيلاً تقنّـعُهم بالنصوص المقدسة تأويلاً وتبريراً لسلوكهم. وبنتيجة إفلاس الخزانة، انصرفت العامة عن تأييد بطلها القادم من الماضي، فكانت فرصة بابا روما أن يرميه بالزندقة والإفساد في الأرض، فكان أن جرت محاكمته ، ليتم إعدامه عام 1498.
في هذا العام كان ليوناردو قد أتم لوحته المثيرة “العشاء الأخير” كجدارية بقاعة طعام الرهبان الدومينيك في دير سانتا ماريا ديل، وكأنه يشير إلى حتمية انصرام الزمن، وعدم جدوى أي محاولة لتثبيته بله استعادة أحداثه.. أتراه أراد أن يبرهن على هذا المعنى عملياً حين رسم لوحته على طبقات من الجبس التي لا تصمد أمام عوامل التعرية والرطوبة؟!
اقترب القرن الخامس عشر من نهايته، فإذا بعقد تسعيناته يعمد إلى عدسة الرؤية فيوسعها، وإلى قيم الألباب فيبدلها، فهاهي ذي اكتشافات كولومبس، وماجلان، وفا سكو دي جاما تخترق حدود العالم القديم، تأتي بالذهب والفضة والمعلومات المذهلة عن عالم لم يخطر ببال ٍ أته موجود.
لقد استبانت أوروبا أن شعوباً بأسرها تحيا حياة مختلفة وتستغني بأنسقة من الأديان الأرضية والأخلاقيات والمعارف “الصالحة” بعيداً عن عالم المسيحية! وعليه سرعان ما ظهرت بين “الأنتلجينسيا” فكرة الدين الطبيعي، الذي يستمد مقوماته لا من السماء بل من الأرض. وربما قال البعض لأنفسهم لماذا لا نستغني عن البحث فيما وراء الطبيعة، مكتفين بالعيش داخل الطبيعة!! وهكذا بدأ سلخ الفلسفة عن الدين. وكان هذا بمثابة التمهيد لحركة الإصــــلاح الــديـني بقيـــادة مارتن لـوثر (1483-1486) وكلفن (1509-1547) والإصلاح Reform يعني -وبالدقة- إعادة التشكيل، أي نقض وتفكيك النسق القديم لكي يحل محله نسق آخر صالح للتعامل مع العصر.
ولعل دافنشي قد استشرف كل تلك الآفاق حينما عكف عام 1490 على دراسة انفعالات مثقفي عصره (التقليديين) حيث نرى القوم وقد بهت منهم من بهت، وصرخ من صرخ، وابتسم ابتسامة اليأس من يئس. لقد آن لهذه النماذج البشرية أن ترحل وأن تختفي، فالعصر عصر الشباب لا العجائز. عصر الموناليزا، تلك المرأة التي سيُودع في ملامحها دافنشي آيات سحره، وجماليات فنه التي تستشرف المستقبل، بوضوحه الغامض، أو لنقل بغموضه الواضح، بفتنته الدافئة، وآماله المُبيتة، وأحلامه النائمة المستيقظة.
بيد أن سؤالاً جوهرياً لا بد وأن يُطرح في هذا الصدد. ترى هل ولدت الموناليزا من رحم العدم؟! والإجابة: طبعا لا، فلا شيء يأتي من لا شيء كما سيقول شكسبير فيما بعد. كل ما في الأمر أن الجديد هو إعادة تشكيل للوجود السابق، هو التحديث Modernization للوقت والمسافة والفراغ.. الخ.
وهكذا نكتشف أن دافنشي لم يكن ليرسي دعائم لوحته الأخاذة (التي سيبدأ العمل فيها عام 1505) إلا بعد أن يكون قد رسم نموذجها الأول في لوحته “العذراء وطفلها والقديسة آن” عام 1500. في لوحة العذراء هذه نرى نفس نظرة الغموض وهي تتحدر من عيني القديسة آن، وكأنها تبصر -في لمحة خاطفة- ما سينتهي إليه الطفل المقدس من مصير أشبه بمصير الحمل الوديع المعد للذبح. كذلك نرى في عيني العذراء نفس النظرة الحانية التي ستطالعنا في عيون الموناليزا، مع فارق هام، هو احتواء الوداعـة النابعة من عيـون القديسة آن، والعذراء البتول، ضمن نظرة أوسع لدى موناليزا. فالأخيرة يتلون عندها الحنان بالقوة، والبراءة بالغموض ، وتمتزج فيها الوداعة بالإصرار على الفعل Action.
قال ليوناردو دافنشي ذات يوم “إن البورتريه يظهر حركة الروح” فهل كان بورتريه الجيوكاندة مُظهراً روحاً غير روح عصر النهضة؟! ذلك العصر الذي تختلط فيه الرغبة بالحذر، والفضيلة بالشهوة. والرقة بالسخرية، والتأمل بالاندفاع، والضياء بالظلال.
كل تلك المعاني لا ريب تبدو موجودة في هذه اللوحة المدهشة، القابلة لكافة التأويلات، والمحفزة للألباب أن تبحث وتتأمل، بل تعمل وتمارس. فلقد نهج ليوناردو دافنشي نهج كل كائن حي، بدأ متوفزاً ثم استوى ناضجاً، وأخيراً بدأ رحلته الأخيرة نحو الموت والاختفاء. وانظر إلى كلماته التي سجلها في مرضه عام 1519″إننا جميعاً نأمل في المستقبل، بيد أن المستقبل -بالقطع- يدخر لنا شيئاً واحداً مؤكداً، ألا وهو الموت ، الذي ينهي كل الآمال”. انظر إليها واستشعر برودة الثلج في دمائك وفي عظامك ! فلعلها النبوءة لنا جميعاً بانقضاء الأجل، أما ليوناردو فلم يمض عام واحد على قوله ذاك حتى أسلم الروح، وكان موجوداً وقتها في فرنسا، فلم يشيع جنازته إلا جماعة صغيرة من خدمه وتلميذه ميلتزي.
وهكذا أثبت ليوناردو دافنشي بحياته وموته، وفنه، وفلسفته أن عصر النهضة – شأنه شأن كل كائن حي ّ- لا ريب سيرحل بدوره، مفسحاً المجال لغيره من الكائنات عاشقةِ الماكرةِ المعبودةِ الغادرةِ: “الحياة” ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
أخا الدنيا أرى دنياك أفعى تبـًّدل كل آونـة ٍ
إهابا ومن عجبًٍ تشيّبُ عاشقيها
وتفنيهم، وما برحت كعابا
tahadyat_thakafya@yahoo.com
*كاتب المقال شاعر مصرى، ورئيس تحرير مجلة تحديات ثقافية
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
وهل العودة للأصول الصحيحة تخلف وهل التقدم مناقض للدين
ماأشبه اليوم بغدا
أنها دورة الحياة وفعل التقدم فالصراع بين رواد التقدم وخفافيش الضلام مايزال طوال فترات التاريخ، واليوم نرى أمثال سافونا رولا في المعابد وداخل دور العالم وفي دواوين الحكومة ، وإذا كان كاتبنا الكبير قد جسد فترة من التاريخ، فأنه أكد لنا أن النصر في النهاية لقوى التحرروالتقدم، لعله يحفزنا لتواصل المقاومة وشحز ههم استمرار التصدي لقوى الضلام .
مقال رائع لكاتب كبير نتمني له دوام التوفيق والصحة لكي يبدع لنا كل يوم جديد
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
مقالة رائعة بغير شك وفى انتظار المزيد.
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
مقالة رائعة تحليل علمى راقى
ارجو من الكاتب المبدع الاستاذ/ مهدى بندق الاستمرار فى الكتابة فى هذا الاتجاه
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
مقالة رائعة يا أستلذ مهدى .. شأنها في ذلك شأن كل كتاباتك .
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
Great , scientifhical study with upmost
while Mr.,Sorory is completely wrong in his comment
He is bound to run along his thoughts about Savonarola stereotype ,as the writer exactly mention to
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقيةولكنها تدور –انها المقولة الخالدة التى اطلقها يوما ما العالم جاليليو في مواجهة ذاتة التى لم تقبل الاهانة التى وجهها بعض الذين يظنون أنهم يملكون الحقيقة وحدهم–طار سافونا رولا خارج السرب فكان جزاؤه القنص من قناصة الفكر وقراصنة العقل –هذا العقل المنفى فى كل المجتمعات التى تقدس الموروث دون نقد المفارقة ان الذين أعدموا سافونارولا ماتوا هم أيضا ولكن الراهب المفكر هو الذى عاش كعادة كل الذين يقلولون ويجهرون بما يخالج نفوسهم من أفكار و رؤى–عندما قرأت ما كتب عن سافونا رولا شرد بى الذهن و لكنه لم ياخذنى الى الماضى ولكن الى الحاضر الذى نحيا… قراءة المزيد ..
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
مقال رائع وتحليل عميق ممتع ، وأن يربط الكاتب بين لوحات دافنشى
وبين إعدام الراهب سافونا رولا ، فأمر منطقى تماما وعلي عكس الروائى
“الأمريكانى” دان براون ، فإن كاتبنا العربى لم يقع في غواية التفسير التآمرى للتاريخ، بفضل تمكنه من آليات ومناهج علم اجتماع الدين وعلم اجتماع الفن . وأنا أشهد أن لا أحد سبق الأستاذ مهدى بندق في التوصل إلى هذه النتائج المدهشة والتي تشير إلي واقعناالعربى المعاصر بأصابع الإتهام دون مباشرة فجة أو زعيق فظ .
تحية لهذا الكاتب الكبير وشكرا لموقع شفاف الشرق الأوسط علي نشره لهذه الدراسة الممتعة
سافونا رولا: شفرة دافنشي الحقيقية
مقالة رائعة وتحليل مدهش ونتائج مثيرة. أحيى كاتب المقال وأطالبه بالمزيد