تحتاج مصر إلى دولة . . تحتاج لحكومة تتولى تنفيذ العقد الاجتماعي، تؤمِّن الناس على أرواحهم وممتلكاتهم، وتقوم بدور الحكم والقاضي العادل، الذي يعاقب من يتعدى ويعتدي على حقوق الآخرين . . نريد حكومة تقوم بمهام تنظيم الحياة المصرية، وتضع الخطط اللازمة لتنظيم حياة أكثر من 75 مليوناً من البشر، وتشرف على تنفيذ تلك الخط بجدية واستقامة.
مصر يا سادة تفتقد إلى من يقوم بدور الحكومة . . الممسكون بزمام الأمور في البلاد الآن يدَّعون ويتظاهرون بأنهم يقومون بهذا الدور، لكن الوقائع على الأرض تصرخ بغياب الدولة . . الدلائل تؤكد أن أغلب الذين يدَّعون لأنفسهم وظيفة الدولة والحكومة قد تفرغوا لحماية أنفسهم وإحكام قبضتهم، بالقدر الذي يتيح لهم وللعائلات المتحالفة معهم استدرار الحليب من ضرع البقرة المصرية التي تحتضر . . لا يفعلون جدياً أكثر من هذا، غير التفنن في الادعاء والتضليل، وتجنيد أكبر عدد من نافخي الأبواق وقارعي الدفوف.
مصر بدون حكومة تحولت يا سادة إلى فوضى عارمة . . إلى سفينة تغرق، يقفز منها من يستطيع القفز، حتى ولو ليلقى حتفه على سواحل أوروبا، وحتى لو انضم إلى جماعات القتل والإرهاب، وسعيد منهم من يصل إلى أمريكا التي يسبها ويلعنها هنا ليل نهار . . وعلى سطح السفينة التي تترنح يتقاتل الناس ويتصادمون . . تقوم الغوغاء بقتل الأقباط وحرق مساكنهم ومتاجرهم وكنائسهم هنا وهنا وهناك، ويلقى الناس حتفهم في حوادث الطرق بمعدلات غير مسبوقة في العالم، القطارات تخرج عن القضبان، والعبارات تغرق في البحار، الأدوية فاسدة والأغذية فاسدة والمبيدات مسرطنة . . النصابون تحت نظر (اللانظام) يحتالون على الجهلة (حاملي أعلى الشهادات العلمية) لينهبوا منهم آخر رمق من مقومات حياتهم البائسة الفاشلة.
يتحدث الممسكون بزمام الأمور عن نمو اقتصادي لا نعلم أين ذهبت عوائده إن كان ما يقولون صحيحاً، فيما حياة الناس تكاد تصير مستحيلة . . الأسعار ترتفع بمعدلات خيالية، والمواطنون يتزاحمون ويتشاجرون ويسرقون بعضهم بعضاً أمام المخابز من أجل الحصول على رغيف العيش . . الآلاف تسكن المقابر، والملايين يختنقون في العشوائيات . . أصحاب الحظوة يمتصون قطرات الدم من شرايين ملايين الفقراء، الذين لم يتبق لهم غير النواح والتظاهر والاعتصام.
لا ينتبه ولا يكترث أحد أن الشرر المتطاير في كل مكان يمكن أن يتحول إلى حريق بحجم كل البلاد، وخراب شامل لكل العباد . . لا أحد يحاول وقف الانهيار المتسارع والفوضى المدمرة.
يلوك الممسكون بزمام الأمور تعبير “فتنة طائفية”، يسعدهم فيما يبدو أن تصرف انتباه الناس عنهم، تصرفهم عن الفشل والفساد المستشري، بل وعن انصرافهم التام عن مهمتهم التي تبوأوا المناصب بدعوى القيام بها . . يقولون “فتنة طائفية” وكأن الجماهير تتقاتل فيما بينها، والحقيقة التي يراها حتى العميان أن الأقباط في تلك الحالات يختبئون في منازلهم كالأرانب المذعورة، فيما جماعة الإخوان المسلمين –المتغلغلة في كل أنحاء ما يسمى جهاز الدولة- تحرض عناصرها الغوغاء والبؤساء والذين ضاق بهم العيش، ليصبوا تعصبهم ونقمتهم على حياتهم وحكامهم على رأس مواطنيهم الأقباط المسالمين المستضعفين، ولا تستحي الدولة وأذيالها بعد ذلك من اتهام الأقباط بالاستقواء بالخارج . . لم ولن يستقو هؤلاء المساكين بالخارج، فاطمئنوا وافعلوا بهم ما شئتم، اتركوا وشجعوا المتعصبين على انتهاك حرماتهم كما يحلو لكم . . ذلك ما يحدث في مصر بدون دولة، وهذا هو التشخيص الوحيد، وما عداه انخداع أو مخادعة أو مشاركة في تلك المأساة التي تبدو بلا نهاية!!
يشغل الممسكون بزمام الأمور الناس برفض استخراج بطاقة هوية للبهائيين تثبت حقيقة ديانتهم، بدعوى أن ذلك يهدد “النظام العام”، لكي ينسى الناس أن يتساءلوا أين في مصر الآن “النظام العام” من الأساس، إلا إذا كانت “الفوضى العامة” هي ما يطلقون عليه “النظام العام” . . بضعة عشرات من البهائيين يرفضون الإدلاء ببيانات كاذبة عن ديانتهم في أوراق الهوية يهددون بصدقهم “النظام العام”، لكن أئمة المساجد -التابعين في الأغلب لوزارة الأوقاف- الذين يحرضون الجماهير على القتل والتخريب والحرق لا يهددون “النظام العام”، وسياسة المزايدة على الإخوان المسلمين، واستخدامهم كفزاعة للمجتمع لا تهدد “النظام العام” . . الطفلين ماريو وأندرو وشادية وأخواتها يهددون بإصرارهم على مسيحيتهم “النظام العام”، لكن فتح الجرائد القومية والقنوات التليفزيونية لزغلول النجار ومحمد عمارة وكل من يسبون المسيحيين وكتابهم المقدس، ليقولوا بها ما شاءوا لا يهدد “النظام العام”، تماماً كما أن ترك موظفي الضرائب العقارية يبيتون بالشارع 11 يوماً، ليتم الاستجابة لمطالبهم أخيراً لا يهدد “النظام العام”.
مصر التي تعد لكي تورث يبدو أن النية هي لوراثتها جثة هامدة أو متفحمة، كأنه مطلوب إضعاف وتدمير الشعب المصري إلى أقصى درجة ممكنة، حتى تكون الوراثة سهلة أو ممكنة، وحتى لا يجد الجميع لهم ملجأ غير الاستسلام لمن لا يكترثون إلا بأنفسهم وسلطانهم وثرواتهم.
مصر التي علمت العالم فنون البناء تنهار الآن على رؤوس مواطنيها، بعد أن تحولت إلى “جمهورية مصر العشوائية”!!
من يحدث القائمين على الأمور الآن عن شجاعة التخلي والاستقالة، وعن كرامة ووجوب الاعتذار للشعب المصري عن كل ما فعلوا ومازالوا يفعلون؟!!
من يقنعهم أن ما حدث من تدمير للبلاد يكفي ويزيد، وأن أكثر من هذا يمكن أن يذهب بالبلاد إلى غير رجعة؟!!
من يقنعهم أن هذا الشعب الطيب المسالم إذا وصل إلى نقطة الانفجار، فلن تستطيع قوة على وجه الأرض الحد من تداعيات ما يمكن أن يحدث؟!!
من يستمع إلى صوت العقل في زمن الغيبوبة والجنون؟!!!
kghobrial@yahoo.com