إن مصادرة الكلمة والفكرة، يعبّر عن أزمة الفكر أولاً، ثم أزمة الثقافة بكل مؤسساتها. ولن تنمو بلاد وفكرها مَغْلُول وثقافتها مطوّقة. فالساحة الثقافية الكويتية رغم ما يملؤها في الكثير من أطرافها بالغثّ والهزيل، غير أنها لا تزال ساحة ساخنة مفتوحة، تنتظر الكلمة الجادة والقصيدة الرائعة، والمقالة المتزنة، والمسرحية الواعية، واللوحة المعبرة في إطار شفاف من المُماحكة بين أطراف مختلفة ومتعددة.
إن اللون الواحد الذي تصطبغ به الساحة الثقافية والذي تصبوا إليه “الأبوية الثقافية”، هو تقويض للإبداع وتهميش لتنميةٍ ثقافيةٍ سليمة، وتكريس لمشهد ثقافي مغشوش.. متسلّط.. يُصادر.. يمنع.. يُقصي.. وهي أزمة الثقافة والمثقفين في الكويت والعالم العربي كافة.
فقد شهدت الساحة الثقافية الكويتية خلال هذه الفترة، التي تتزامن مع إقامة معرض الكتاب الثاني والثلاثين، أحداثاً في هذا الاتجاه، تمثّلت في مصادرة مجموعة من الكتب والإصدارات الكويتية والعربية، ولعل كثرة ما تعانيه الحرية هذه الأيام من غُبن وحصار، غيّبَ الحديث وطَمَس معالمه، أو لعل التعوّد على الكَبْت والتَّعتيم جعل بعضنا يَقْبُل أحياناً بالتعدي والتعسّف ويعتبرهما.. ملح طعام!
ليس هذه الكتب هي الأولى ولعلها ليست الأخيرة، فقائمة المنع طويلة، طالت ديوان الشعر والمجموعة القصصية والرواية والكتاب الفلسفي والسياسي والتاريخي وحتى الشعائري.
هذه “الحساسية” الغير مبررة نحو الكتاب المخالف والكاتب المخالف والرأي المخالف، تُبرز مدى ضيق صدور البعض، وتكريس منهجية الرأي الواحد واللون الواحد والفكر الأوحد في المشهد الثقافي والاجتماعي والديني على السواء.
إن مصادرة الفكر لن يعالج أية مشكلة.. إنْ كانَ التعبيرُ عن “القَرف” من الاستبداد مشكلة.. وتعرية التخلف الثقافي أو السياسي مشكلة.. والسعي من أجل توعية العقول واستنهاض الهِمم جريمة.. والعمل على تنمية البلاد سياسياً وثقافياً، خيانة للوطن واستقواء عليه.
إن الفكر لا يُصادَر، ولا يموت، وإن حُبس في نفق ووضعت على أفواهه الكمائم والأغلال، فسوف يجد متنفساً ويتأقلم مع وعورة المكان ولعله يستأنس بالظلام، فيزداد تمكناً وثباتاً وإصراراً على الحياة.
إن مصادرةَ كتاب، هو مصادرة للفكرةِ ومحاولةِ إبعادها قسْراً عن مواطن الفعل والتأثير وميدان المناظرة والتلاقح. فالفكرة عند انطلاقتها هي محاولة تحمل في طيّاتها الخطأ والصواب، لا تتدثَّرُ بقدسية مزعومة، ولا بعصمة منشودة، بل هي مُلك الصالح العام منذ أن غادرت صدر صاحبها وتفوّه بها أو كتبها واطلع عليها الناس. وإذا كانت الفكرة مُلكاً للعامة، فإن مصادرتها هي مصادرة للحق العام واعتداء على المجتمع ومنعه إحدى حقوقه وممتلكاته!
إن “حق” العلم والتعلّم.. و”حق” المعرفة والاكتشاف والإطلاع، هي حقوق الإنسان الأولى في تشكّل بنائه كإنسان يأكل ويشرب ويفكر ويختار، وأن منعه من هذا الحق هو منع لأن يكتمل تشكّله كإنسان.
ولعل المؤسسة/المؤسسات “الأبوية” وهي تصادر الكلمة الحرة تسعى إلى توليد مواطن مشوّه، مواطن جاهل، عازف عن القراءة والإطلاع، حَبيس الفكر الواحد، بليد الفهم والاستيعاب. فسياسة المنع والمصادرة هي منهجية واعية لتوسيع “أمية” الشعوب، فأشد ما يقض مضاجع “الأبوية” مهما كان لونها، سياسية أو دينية أو ثقافية.. هو الوعي والرُّشد والرشاد. فوعي الناس ورشدهم بجبروته واكتشافهم لهيمنته، هو نذير للأبوية باكتشاف أمرها وزوال أيامها.
ولعل أعجب ما قرأت أن من بينِ أول الكتب الممنوعة بعد اكتشاف المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، كان الإنجيل، حيث تَرَاء لرجال الدين أن الناس بدءوا يقرءونه ويفهمونه ويحاولون تأويله على غير ما تودّ الكنيسة إيصاله إليهم، فطلبت من الملوك والأباطرة منعه عن الناس!
لقد صدق من قال إن الخائفين لا يصنعون الحرية، والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء، فللحرية أخلاق وللبناء قيم، ونحن من موقعنا لن نَجْبُن ولن نتردّد على مواصلة المشوار من أجل الكلمة الحرة والواعية.. من أجل كرامة الإنسان.
ayemh@hotmail.com
* باحث وكاتب كويتي