فكرة جيدة أن نجعل من 23 يوليو كل عام يوماً للحداد الوطني، ليس هذا من قبيل تصفية حسابات مع عهد سابق، وإنما الشعوب الواعية هي التي تعتبر بدروس التاريخ، فهذا اليوم يصلح للحداد على مفهوم الوطن، الذي كاد أن يمحوه عهد الانقلاب من عقول وأفئدة المصريين لحساب قومية مدعاة، لم نجن منها غير الكوارث، وتبني قضايا خاسرة، جعلت مصر التي كانت دائنة لبريطانيا تتسول الآن من حفاة البدو ومن كل العالم، حداد على عهد جعل مصر الخالدة مجرد إقليم جنوبي، وهي التي تعرَّف العالم من خلالها على مفهوم الدولة مكتملة الأركان والمقومات، حداد على اسم مصر الذي محاه عبد الناصر، واستبدله باسم لا معنى له، ليعيده السادات ملحقاً بوصف العربية الزائف والمضلل، حداد على السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية، بعد أن زرع نظام يوليو الصدام والبغضاء بين كل مكونات الوطن: زرع الصدام والعداء بين مالكي العمارات والسكان، وصور الملاَّك كأنهم أعداء الشعب، وزرع الصدام بين ملاك الأرض الزراعية ومستأجريها، والصدام والكراهية بين العمال وأصحاب المصانع، الذين كانوا رواداً للصناعة في المنطقة، ووضعوا مصر على بداية عصر الصناعة، ليستدير بها نظام يوليو عبر مشاريعه الفاشلة، التي أدارها الضباط غير الأحرار ومحاسيبهم، لينهبون ثروة مصر، ويبددونها بإهمالهم وجهلهم بعلوم الإدارة والصناعة، وهمَّش المسيحيين في أجهزة الدولة، واستبعدهم تماماً من المواقع الحساسة، كأنهم ليسوا أهل ثقة، وهناك من خونة هذا الانقلاب من دعا إلى تهجيرهم للحبشة، وتفشت هذه الثقافة في الشعب الذي كان محتاجاً لمن يرتقي به، وليس من يغيِّب عقله، ويهبط به إلى أسفل سافلين.
لقد تم زرع بذور تدمير الشخصية والثقافة المصرية، بالإضافة إلى ما تم تدميره من مقومات مصر الاقتصادية والسياسية في الحلقة الأولى من هذا الانقلاب، أي في عهد عبد الناصر، لتنمو وتترعرع برعاية السادات، ثم تتفاقم لنكون على وشك الانهيار التام في العصر السعيد الحالي.
إذا كنا نحاسب اليوم من قال “طز في مصر”، فإننا يجب أن نحاسب من مهد له الطريق، نحاسب من وجد أن حجم مصر لا يكفي طموحه الإمبراطوري، وتطلع لإمبراطورية من المحيط إلى الخليج، تليق بالزعيم الملهم والقائد التاريخي، ليأتي صاحبنا “صاحب الطز” على نفس الأرضية ونفس النهج، ليطمح في خلافة إسلامية من أندونيسيا حتى نيجيريا، لا يكون في مصر فيها إلا وزن “طز”!!
في يوم الحداد الذي مازال إجازة رسمية لن يقف المصريون فقط دقيقة حداداً على ما حل بمصر والمصريين من تدمير جراء ذلك العهد، وإنما أيضاً هو يوم لنتدارس وننشر الأبحاث ونعقد المؤتمرات لاستعراض من وقعنا فيه من أخطاء وخطايا، في حق أنفسنا وفي حق الآخرين، فقد قدنا مثلاً ما يسمى بالأمة العربية إلى حروب خاسرة، وبشرنا وكنا مثالاً للحكم العسكري الدكتاتوري، الذي يسحق الشعوب وينكِّل بالأقليات، فكان صدام والأسد والقذافي والبشير، وكنا حملة لواء العداء للغرب موطن الحضارة المعاصرة وراعيها، وفيما سلكت شعوب العالم بعد الحرب العالمية الثانية طريق التقدم والحداثة، ضيعنا نحن الفرصة على شعوبنا وعلى من تأثر بنا، لنسلك طريق الصدام والعداء، ومن ثم الفشل الذي نمت في ظلاله تيارات التأسلم التي أنجبت الإرهاب العالمي.
سيكون يوم الحداد المصري فرصة سنوية لنراجع حساباتنا كل عام، ونقيم ما حققناه ونحققه من تطهير لعقولنا ونفوسنا وبلادنا من آثار يوليو الوبيلة.
لا نستهدف أن نحاكم أشخاصاً أو رموزاً هم الآن في ذمة التاريخ، لكننا يجب أن نحاكم رؤى وسياسات، هي المسئولة عن كل ما نحن فيه الآن من بلاء وابتلاء.
لقد وقعت ألمانيا في شراك النازية،وإيطاليا في الفاشية، وكذا اليابان وروسيا وسائر دول الكتلة الشرقية، كلها دخلت تجارب فاشلة دمرت الإنسان وأهلكت الزرع والضرع، لكنها جميعاً راجعت ومازالت تراجع نفسها بشجاعة وجسارة، وهي تفعل هذا ليس انتقاماً من ماض بغيض، وإنما إنقاذاً للحاضر من آثاره الأدبية والمادية . . هي إذن دعوة لنجعل من يوم الحداد المصري الذي نحتفل به كل عام عبرة متجددة، حتى لا نعيد إنتاج الماضي، وحتى نتيقن من تمام استئصال كل جذوره، فهكذا تفعل الأمم الحية، التي تهتم بالمستقبل، ولا تقدس الماضي وأصنامه، فمستقبل أبنائنا هو فقط ما يهمنا، ولو على حساب أصنام قدسناها لعقود.
فقط الأمم التي تنجح في التحرر من أسر الماضي، هي التي تستطيع الانطلاق إلى مستقبل أفضل.
* الإسكندرية
يوم الحداد الوطنيأتفق مع الكاتب بأن الأوضاع المأساوية التي تعيشها مصر حاليا هي نتيجة الأخطاء التي حدثت في الفترة الناصرية وتضاعفت في الفترتين الساداتية والمباركية ،ولكن لا يمكن اغفال أن حركة 23 يوليو كانت نتيجة الأخطاء التي ارتكبت طيلة الفترة الملكية الليبرالية ولو لم تكن هناك أخطاء لما حدث ثورة او انقلاب 23 يوليو. وهناك حوادث تاريخية لم تتطرق لها في مقالتك اؤد التطرق لها الآن وهو تحميل السادات وزر الأسلمة الغوغائية التي تعرضت لها مصر طيلة الثلاثة عقود الماضية ابتداء من الثمانينات، فمن الثابت تاريخيا ان الجيل الذي عاش فترة السبيعنات كان هو جيل الذي عاش الفترة الملكية الليبرالية… قراءة المزيد ..