في ظلّ اللعبة المكشوفة التي تشرف عليها وتديرها بحذاقة وبأدقّ التفاصيل “الجمهوريّة الإسلاميّة” في جنوب لبنان، توجد حلقة مفقودة اسمها أهل الجنوب. ما رأي أهل الجنوب بما يدور على أرضهم؟ لا أحد يفكّر بأهل الجنوب ومخاوفهم الحقيقية من محاولة افتعال الحزب، بطلب إيراني، حرباً جديدة، وإن على نار غير هادئة. ستؤدّي الحرب مرّة أخرى إلى تدمير بيوت الجنوبيين وتهجيرهم من أرضهم.
ليس هناك جنوبي أو لبناني غير متضامن مع أهل غزّة. لكن ما الفائدة من مناوشات يلجأ إليها حزب لبناني، هو كناية عن ميليشيا تابعة لإيران، من أجل القول إنّ قسماً من الجيش الإسرائيلي بات محيَّداً ولا يستطيع المشاركة في حرب غزّة حيث تمارَس الوحشية الإسرائيلية بأبشع صورها؟
أكثر من ذلك: ماذا ينفع السير في الخطّ الإسرائيلي الداعي إلى توسيع حرب غزّة… إن لم يكن اليوم، فسيحصل ذلك غداً أو بعد غد؟!
يحقّ للمواطن الجنوبي العيش بأمان في حماية الدولة اللبنانيّة والجيش بغطاء القرار 1701. لن تفيده الشعارات والسلاح في شيء ولا الحروب التي تصبّ في مصلحة إيران الساعية إلى إثبات أنّ لبنان مجرّد ورقة في يدها تستخدمها حين تشاء. يعرف المواطن الجنوبي ذلك قبل غيره. يعرف أنّ إيران تستطيع السماح بترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل وتستطيع في الوقت ذاته تحويل الحدود إلى جبهة مفتوحة مع الدولة العبريّة. ما لا تستطيعه هو الاعتراف بأنّ أهل الجنوب، بأكثريتهم الشيعيّة، يستأهلون الحياة الكريمة والآمنة في آن مع جيرانهم المسيحيين والسنّة والدروز.
استقلال لبنان… وتضحيات أهل الجنوب
مرّت أمس الذكرى الـ80 لاستقلال لبنان. تنفع هذه الذكرى للعودة إلى التضحيات التي قدّمها أهل الجنوب الذين دفعوا غالياً ثمن تقصير الدولة اللبنانية في حقّهم. لا يتعلّق الأمر بالتنمية في الجنوب، حيث لم تقصّر الدولة في أحيان كثيرة، بمقدار ما يتعلّق بالإهمال الذي أظهرته الدولة عندما وقّعت اتفاق القاهرة في الثالث من تشرين الثاني 1969 تاركة الجنوبيين لمصيرهم. حصل ذلك في ظلّ انتشار مسلّح فلسطيني بعدما رضي العرب بأن يكون جنوب لبنان، أو ما سُمّي “فتح لاند”، حقل تجارب يتلهّى فيه الفلسطينيون عن العمل السياسي الجدّي من أجل دفع قضيّتهم المحقّة إلى أمام. في مرحلة معيّنة، لم تعد “فتح لاند” تتّسع للمسلّحين الفلسطينيين الذين تحوّلوا إلى طرف أساسي في حرب لبنانيّة، غذّاها النظام السوري بغية تحقيق أهداف خاصة به. دمّرت الحرب اللبنانيّة وسط بيروت. امتدّت إلى كلّ لبنان، بما في ذلك إلى مناطق ذات أكثريّة مسيحية فيها مخيّمات فلسطينيّة.
هذا ليس وقت فتح دفاتر الماضي وتبادل الاتّهامات والمسؤوليّات. إنّه وقت إنقاذ ما يمكن إنقاذه وطرح الأسئلة الكبيرة المرتبطة بمصير لبنان، بل بفكرة لبنان وإعادة تركيبه انطلاقاً من الجنوب. في النهاية، هناك منطقة جديدة، اسمها الشرق الأوسط، تعيش مرحلة ما بعد حرب غزّة.
أين موقع لبنان في تلك المنطقة؟
سيعتمد الكثير على ما إذا كان لبنان سيتمكّن من حماية نفسه بدءاً بحماية أهل الجنوب الذين سئموا كلّ أنواع الحروب. لم يسأم هؤلاء، في قرارة نفسهم، الحروب فحسب، بل سئموا أيضاً، وخصوصاً، من تحويل أرضهم إلى حقل تجارب استخدمه الفلسطيني ثمّ السوري والإيراني معاً ثمّ الإيراني وحده منذ سنوات طويلة. كان هناك إصرار كامل لدى السوري والإيراني على إبقاء جبهة الجنوب مفتوحة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير ذلك الإصرار على بقاء الجيش اللبناني خارج الجنوب. بقي الأمر، على هذا النحو، حتى صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة صيف عام 2006.
كان مطلوباً في كلّ وقت المتاجرة بالجنوب وأهل الجنوب. كوفئ إميل لحّود بموقع رئيس الجمهوريّة في عام 1998، بعد وشايته برفيق الحريري ونبيه برّي والياس الهراوي لدى حافظ الأسد، بسبب سعيه إلى عودة الجيش اللبناني إلى الجنوب في 1997. كانت تهمة إميل لحود للحريري الأب سعيه إلى تمرير عودة الجيش اللبناني إلى الجنوب من خلف ظهر الأسد الأب.
مع اندلاع حرب غزّة، لا يزال الجنوب المدخل إلى استعادة لبنان وإغلاق هذه “الساحة” التي استُخدمت دائماً من أجل جعل النزيف اللبناني من النوع الذي لا يتوقّف. يدعو إلى القلق أن لا رأي لأهل الجنوب بما يدور حالياً على أرضهم. تتحدّث الحكومة اللبنانيّة عن خطة طوارئ من النوع المضحك المبكي الذي لا فائدة منه، فيما يتبيّن كلّ يوم مدى الإمساك الإيراني بورقة الجنوب.
لبنان على توقيت إيران
المخيف في ظلّ كلّ ما يجري أنّ لبنان يعيش في ظلّ التوقيت الإيراني. تبيّن أن ليس في المنطقة من يريد خوض حرب مع إسرائيل بتوقيت “حماس”، لكنّ لبنان يبدو مجبراً على خوض شبه حرب، وربّما خوض حرب مكتملة الأوصاف مع إسرائيل لاحقاً، بتوقيت إيراني لا أكثر.
أين أهل الجنوب وسط ذلك كلّه؟
مرّة أخرى يبدو أنّ عليهم دفع تكاليف معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فيما الدولة اللبنانيّة غائبة. كان الأمر كذلك لدى توقيع اتفاق القاهرة قبل 54 عاماً. لم يتغيّر شيء في 54 عاماً. بل تغيّر الكثير في لبنان. صار مصير البلد مطروحاً. صار الاستقلال ذكرى من الماضي بعدما حلّ الفراغ في كلّ مكان. بلغ الفراغ درجة لم يعد من همّ لدى الثنائي الرئاسي السابق ميشال عون – جبران باسيل سوى قطع الطريق على التمديد لقائد الجيش جوزف عون بغية ضرب آخر مؤسّسة صامدة… آخر ما بقي على الحياة في الوطن الصغير.