على الرغم من التحولات التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين، لا يزال الشعب الفيتنامي البالغ تعداده نحو 93 مليون نسمة يرزح تحت نظام حكم الحزب الواحد ممثلا في “الحزب الشيوعي الفيتنامي” الذي يستند في شرعيته إلى شيء واحد فقط هو هزيمة القوات الإمريكية وإعادة توحيد شطري البلاد.
صحيح أن قادة فيتنام الشيوعيين أظهروا في سلوكهم وسياساتهم الخارجية نمطا مغايرا لسلوك وسياسات رفاقهم في كوريا الشمالية وكوبا وغيرهما من الدول الشمولية، اتسم بقدر كبير من الواقعية والانفتاح على الآخر وتجاوز ذكريات الماضي المؤلمة. إلا أن الصحيح أيضا هو أن التحديات الكثيرة التي تواجههم لم تترك لهم مجالا لتنفيذ إصلاحات سياسية وإقتصادية أشمل.
مؤخرا تم في هانوي، من خلال المؤتمر الوطني العام الثاني عشر للحزب الشيوعي الفيتنامي، استكمال إختيار الشخصيات الأربع التي ستدير البلاد في المرحلة المقبلة، وبعبارة أخرى تمت تسمية من سيمسكون بالمناصب الرئيسية الكبرى في البلاد وهي: رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة، ورئاسة البرلمان، وزعامة الحزب الحاكم، علما بأنه لأول مرة تم إختيار إمرأة ستينية هي “تي كيم نغان” لتولي رئاسة البرلمان المكون من 500 عضو والمسيطر عليه من قبل الحزب الحاكم .
ما يهمنا هنا هو منصب رئيس الوزراء الذي ذهب إلى “نيغوين شوان فوك”، وذلك باعتباره الرجل الثاني في هرم السلطة، المناط به مسئوليات كثيرة على رأسها الأشراف على إقتصاد البلاد، وتمثيلها في المحافل الإقليمية والدولية. وبصفته الأخيرة هذه فهو الذي سيتباحث مع الرئيس الأمريكي أوباما حينما سيزور هانوي الشهر القادم في زيارة هي الأولى لرئيس أمريكي إلى هذه البلاد منذ عام 2006 أي منذ أن زارها الرئيس السابق جورج بوش الإبن.
ويبدو أن الأضواء مركزة منذ الآن على “فوك” لمعرفة ما سيتمكن من إنجازه في محادثاته مع الرئيس الأمريكي لجهة الرد المشترك على ما يسميه البلدان “الإستفزازات والأعمال العدائية الصينية في بحر الصيني الجنوبي” ضد مجموعة من دول جنوب شرق آسيا، علما بأن القوات البحرية الفيتنامية اشتبكت مع نظيرتها الصينية في عام 1988، واحتجزت مؤخرا قوارب عسكرية صينية تقول أنها دخلت المياه الإقليمية الفيتنامية.
على أن “الإستفزازات العسكرية الصينية” ليست الملف الوحيد على طاولة رئيس الوزراء الجديد. فهناك ملفات أخرى كثيرة متعلقة بما تواجهه بلاده من تحديات يستلزم التعامل السريع معها، ومنها حجم الدين العام الكبير، وعجز الميزانية المزمن، وإعادة المصداقية إلى القطاع المصرفي بعد سلسلة من الفضائح، والفساد المستشتري في مؤسسات القطاع العام.
ولإعطاء صورة أوضح عن الوضع في هذه البلاد، يكفي أن نعرف أنها تقع في ذيل شريكاتها بمنظومة آسيان في العديد من الحقول، بما في ذلك معدل دخل الفرد السنوي الذي يعتبر رقما تافها عند مقارنته بمثيله في سنغافورة وماليزيا مثلا. وينطبق الشيء نفسه على الحريات الإعلامية، وحرية التعبير، حيث يوجد بون شاسع بين فيتنام ومعظم شريكاتها التسع في “آسيان”، بدليل أن منظمة مراسلون بلا حدود صنفتها في عام 2015 في المرتبة 175 ضمن الدول الأسوأ من ناحية الرقابة على وسائل الإعلام والإتصالات.
سارعت القيادة الشيوعية الفيتنامية في مؤتمر الحزب الحاكم في مارس الماضي إلى إطلاق شعار إعتبار سنة 2016 سنة “لروح جديدة”، و”حافز جديد”، و”قوة دفع جديدة”، الأمر الذي قابله الفيتناميون بالإبتهاج إعتقادا منهم أن قادتهم قد تعرفوا على مكامن الخلل في البلاد، وأنهم بصدد مواجهة كافة التحديات. لكن سرعان ما تبين لهم أن الحزب الحاكم عازم على مواصلة ما يعرف بـ” دوا مواDoi Moi ” أي سياسة “الترميم” العقيمة التي أطلقت قبل 30 عاما ولم تؤد إلا إلى نتائج متواضعة. كما سادت الأوساط الشعبية مخاوف من احتمالات سعي القيادة الجديدة للعودة إلى التطبيق المتشدد للتعاليم الماركسية/اللينينية التي تعتبرها الأجيال الفيتنامية الصاعدة شيئا انتهى زمنه الإفتراضي ولم يعد صالحا للعصر، خصوصا وأن جيل الشباب تمكن في السنوات العشرين الماضية من فرض رؤيته على قيادته لجهة تبني سياسات السوق والانفتاح الإقتصادي المتدرج.
ويعزو المراقبون تلك المخاوف إلى إعادة إنتخاب المنظــّر الأيديولوجي العجوز “نيغوين فو ترونغ” (71 عاما) على رأس الحزب الشيوعي، وإسقاط إسم “نيغوين تان دونغ” (66) الذي كان رئيسا للحكومة منذ عام 2006، وأظهر في أكثر من موقف نزعته الليبرالية والإصلاحية وكان يسعى إلى رئاسة الحزب الحاكم كي يغدو رجلا قويا ممسكا بخيوط لعبة التغيير المنشود.
الحال أن ما سيحدث من تطورات في فيتنام يتوقف الآن بالدرجة الأولى على ما ستسفر عنه الانتخابات المزمع إجراؤها في الشهر القادم لإختيار برلمان جديد، وهو البرلمان الذي سيكون من مهامه التصديق بالموافقة على المناصب القيادية الأربعة المشار إليهاأو رفضها.
Elmadani@batelco.com.bh
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين